يسقط يسقط حكم الكرباج

03 ديسمبر 2015

يعتقد البعض أننا أمة لن يصلحها إلا الكرباج (GETTY)

+ الخط -

 3ـ "صحيح إن الآية الكريمة بتقول إنه لا إكراه في الدين، لكن الكلام ده المفروض يبقى قبل دخول الإسلام، مش بعد دخوله، وعشان كده في حديث شريف يقول من بدّل دينه فاقتلوه، لإن الدين مش هزار، والعقد شريعة المتعاقدين". هكذا كتب صاحبنا لي بحماس، فحمدت الله لأنه لم يكمل حجته التي ظنها مفحمة، بعبارة من نوعية "هو دخول الإسلام زي خروجه".

حين حاولت تذكيره بما يقوله بعض العلماء، عن ارتباط ذلك الحديث بسياق تاريخي معين، لا يجوز انتزاعه منه، لتطبيقه على عصرنا، ردّ بحسم: من فضلك، النص واضح، ولا يحتاج لأي علماء لإيضاحه، قلت له: طيب، ما دمت تؤمن بالنصوص الواضحة، هل هناك ما هو أوضح من قوله تعالى "ومن يدعُ مع الله إلها آخر لا برهان له به، فإنما حسابه عند ربه، إنه لا يُفلح الكافرون"، فقال من دون إبطاء: هذه الآية تحتاج، أولاً، إلى علماء، لإيضاح أسباب نزولها، ومعرفة ما إذا كانت منسوخة أم لا، فأدركت أن صاحبنا لا يبحث أبداً عن اجتهادات ليفكر فيها، فيختلف معها أو يتفق، بل يبحث فقط عن تأكيداتٍ لرأيه القاطع المسبق الذي يشعره بكمال الإيمان وتمام الصلاح، كأنه سيكون أكثر غيرةً على الدين من الله تعالى، الذي يقولها لرسوله (ص) صريحةً في مواضع متعددة من القرآن الكريم، وفي آيات محكمةٍ واضحة، أكدت على مبدأ حرية العقيدة، وأن هداية البشر ومحاسبتهم عقائدياً من حق الله تعالى وحده، ومن أبرز ما جاء في هذه الآيات، مثلاً، قوله تعالى: "أفأنت تُكرِه الناس حتى يكونوا مؤمنين"، "فإنما عليك البلاغ، وعلينا الحساب"، "فذكِّر إنما أنت مذكِّر، لستَ عليهم بمُصيطر"، "وما أنت عليهم بجبار، فذكِّر بالقرآن من يخاف وعيد"، "ولو شاء الله ما أشركوا وما جعلناك عليهم حفيظاً، وما أنت عليهم بوكيل"، "وما أكثر الناس، ولو حرصت بمؤمنين"، "إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله، وهو أعلم بالمهتدين"، "لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغيّ".

للأسف، يتصور بعض المتدينين، حين تردد له هذه الآيات، أنك تطلب منه الاحتفاء بكل من يرتد عن الإسلام، وتبني أفكاره، أو أنك تهوّن من شأن الردة عن الإسلام، أو تروجها لكي تخرجه هو أيضاً عن الإسلام، مع أنك لا تطلب، في الحقيقة، لمعاملة المرتد أو الكافر أو الملحد، أكثر مما يطلبه له الإسلام نفسه في القرآن الكريم، فمع أن الإسلام، كغيره من الأديان السماوية، لا يرى في الخروج عليه، أو الكفر به، أمراً سهلاً، بل يعتبره أمراً شديد الخطورة، وفي ذلك ترد آيات عديدة، منها: "ومن يتبدّل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل"، "إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفراً لن تُقبل توبتهم وأولئك هم الضالون"، "إن الشرك لظلم عظيم"، لكن القرآن الذي يعتبر أن الإنسان يظلم نفسه أصلاً بالكفر، يوكل معاقبة المرتد أو الكافر إلى الله سبحانه وتعالى، ويجعلها حقاً له وحده، ولا يجعل من حق البشر أن يقوموا بمعاقبته، نيابة عن الله، وفي ذلك ترد آيات عديدة، منها: "إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفراً لن تُقبل توبتهم، وأولئك هم الضالون"، "ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر، فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة، وأولئك أصحاب النار، هم فيها خالدون"، "إن الذين آمنوا، ثم كفروا، ثم آمنوا ثم كفروا، ثم ازدادوا كفراً، لم يكن الله ليغفر لهم، ولا ليهديهم سبيلا". وتوحي الآية الأخيرة بتعامل القرآن مع حقيقة تقلب بعض الناس في معتقداتهم بين الإيمان والكفر بدرجاته. ومع ذلك، هي لا تورد عقوبة دنيوية لمن يتقلب بين الإيمان والكفر، بل تجعل عقابه في يد الله تعالى وحده، وهو ما ينطبق على كل الآيات التي تتحدث عن الكفر، ومع ذلك، كما يقول الدكتور طه جابر العلواني، فإنها "لم تذكر مرة واحدة حداً للردة، أو عقوبة دنيوية لها، لا إعداماً ولا دون ذلك، لأن حاكمية القرآن حاكمية تخفيف ورحمة، وحاكمية تقرير لحرية العقيدة وحمايتها وحفظها، وحاكمية تؤكد أن الإيمان والكفر شأن قلبي بين العبد وربه، وأن العقوبة على الكفر والردة بعد الإيمان، إنما هي عقوبة أخروية موكولة لله تعالى، وهو سبحانه صاحب الحق الأخير والأول في هذا الأمر، وأن أمر التوبة عن الردة، والرجوع عنها بعد السقوط فيها، وقبولها وعدم قبولها، كل ذلك شأن إلهي بين الله وعباده".

في كتابه (لا إكراه في الدين)، يقوم الدكتور طه جابر العلواني بمناقشة مستفيضة لكل الأحاديث التي يستخدمها المتطرفون، عادةً، لتبرير جرائمهم الإرهابية المادية والمعنوية، وفي مقدمتها حديث (من بدل دينه فاقتلوه) برواياته المتعددة، فيثبت أن كل حديث منها يرتبط بجرائم عنف ومعاداة للمجتمع تم ارتكابها، واستحقت عليها العقوبة، وليست مرتبطة أبداً بإعلان أحد ما رأيه، حتى لو كان كفراً أو ردة، لكنه، في البداية، يضع قاعدة حاكمة لمناقشة تلك الأحاديث، تقول: "هناك استحالة عقلية واستحالة شرعية، أن يأتي في السنة النبوية، شيء يناقض مبادئ القرآن أو مناهجه بأي حال من الأحوال، فضلاً عن أن ينسخه، فما تقرر في القرآن، تُبيّنه السنة إذا احتاج الناس فيه إلى بيان، بالقول النبوي، أو الفعل المقترن بالقول، أو الفعل المُجرّد المُبين لكيفية التطبيق، أو التقرير، وتُعضّده وتتكامل معه، وما تأتي به السنة لا يمكن إلا أن يكون مبيناً للقرآن، وموضحاً له، ومتضافراً مع مبادئه، وإذا كانت مبادئ القرآن الكريم قد حدّدت، بوضوح، إطلاق حرية الاعتقاد، وأحاطتها بسائر الضمانات، بما يقرب من مائتي آية، وجعلت جزاء الكافر أو المرتد لله تعالى، وفي الدار الآخرة، فلا يُتوقع من السنة أن تأتي على خلاف ذلك، خاصة وأن هذا الأمر لم يرد في آية واحدة، أو اثنتين، بل جاء بما يقرب من مائتي آية بينة، وكلها متضافرة على تأكيد حرية الاعتقاد".

بالطبع، يخطئ من يظن أن مثل هذه الأفكار سيتم تقبلها بسهولة، من قطاعات كبيرة من المسلمين الذين تأثروا بالخطاب الديني السائد عبر قرون، والذي يتعامل مع قتل المرتد وتكفير المختلف في الرأي، بوصفه حفاظاً على الإسلام، ودفعاً للفتنة التي يمكن أن تصيب المجتمع، حيث كانت، ولا تزال، وستظل تُستخدم في ذلك، آيات وأحاديث تحض على جهاد الكفار والمنافقين وقتالهم، وهي نصوص يستخدمها المتشددون، لتبرير تكفيرهم وجرائمهم الإرهابية، معتبرين آن آيات الرحمة والتسامح وحرية العقيدة يجب أن تُقرأ في ظل تلك النصوص التي تحض على القوة والقتال والغلبة، وليس العكس، ومع أن علماء كثيرين سبق لهم وأن ناقشوا تلك الآيات والأحاديث، وربطوا كل آيةٍ بالسياق الذي وردت فيه، وكل حديث بالظروف التي ورد فيها، إلا أن كل تلك القراءات العقلانية المتسامحة، لا تجد الجماهيرية نفسها، التي تحظى بها نصوص القتل والعنف، لأسباب تعرّضت لها باستفاضة، أمس، وهو ما سيجعل محاولات الدعوة إلى حرية العقيدة وعدم جواز قتل المرتد تتلاشى أمام صخب الجموع المرددة حديثاً مثل (من بدل دينه فاقتلوه)، لأن اعتماد ذلك الحديث يتيح للمجتمع أن يريح باله من وجع الدماغ، الذي ستجلبه الآراء المخالفة لمعتقداته السائدة.

ضمان حرية العقيدة، حتى وإن كفله الله تعالى في القرآن الكريم، لن يكون، للأسف، مناسباً لمجتمعنا الذي ستؤدي حرية العقيدة إلى جعله يفقد سطوة القهر التي يرى أنها مهمة، لجعله مجتمعاً متماسكاً وآمناً و"مصطفّاً" خلف قياداته السياسية والدينية والاجتماعية. ولذلك، ستجد هذا المجتمع يوظّف نصوص تحريم الخروج على الحاكم في مواجهة أي حركات معارضة متدينة، ويوظّف نصوص قتل المرتد في مواجهة أي آراء مخالفة لعقيدة غالبيته، ويوظّف آيات السلام والمحبة والرحمة، عقب وقوع الجرائم الإرهابية التي يمكن أن تؤثر على أمنه داخلياً، أو تسيء إلى سمعته عالمياً، ويوظّف آيات "ذم اليهود والنصارى"، حين يحتاج إلى تغذية نظريات المؤامرة، وتقوية شعوره بالتفوق، أو حين يشعر أن الأقليات التي تعيش بداخله تجاوزت الحدود المرسومة لها. وهكذا يطبق مجتمعنا نظرية الإمام علي في أن (القرآن حمّال أوجه)، ولكن، على طريقته الخاصة، بحيث يسمح فقط بأوجُه القرآن والسنة التي تدعم التفكير السائد في المجتمع، والذي ترعاه دائماً الأنظمة الحاكمة، وشبكات المصالح المرتبطة بها، لأنه يحقق الاستقرار بمعناه الأمني البليد. ولذلك، سيظل حديث (من بدّل دينه فاقتلوه)، أكثر تأثيراً في عموم الناس، من آية (لا إكراه في الدين)، حتى لو لم يحدث قتل فعلي لكل من يبدل دينه، لكي لا يوقع ذلك النظام في مشكلات مع الجهات الدولية المانحة، ولذلك، الأهم بالنسبة للنظام أن يظل القتل الرسمي أو الشعبي شبحاً حاضراً، في أذهان كل من يحاول أن يختلف مع التفكير السائد في المجتمع.

في ضوء هذا وحده، يمكن أن تفهم لماذا يتفق على وجوب قتل المرتد ومعاقبته، أغلب علماء وشيوخ الأزهر ممثل التدين الذي تدعمه السلطة، وشيوخ السلفيين الذين تتحالف معهم الأجهزة الأمنية غالباً، وشيوخ "الإخوان المسلمين" الذين تعاديهم الدولة المصرية الآن، والمراجع الفقهية الجهادية والتكفيرية، على الرغم من أن كل هؤلاء يختلفون جذرياً في مسائل كثيرة، لكنهم يتجاوزون خلافاتهم فقط، حين يتعلق الأمر بحرية العقيدة والرأي، لأن ضمان تلك الحرية، وغيرها من الحريات الشخصية والعامة، يسحب البساط من تحت أقدام هؤلاء جميعاً، فحرية العقيدة والرأي، في جوهرهما، تتعارضان مع فكرة السمع والطاعة، التي تطلب من الإنسان أن يلغي عقله، ويستسلم لنطاعة السمع والطاعة، ليضمن رضا الدولة أو الجماعة أو المجتمع المحيط به في الدنيا، ويضمن رضا الله في الآخرة، في حين يحكم المجتمع بالخسران المبين في الدنيا والآخرة، على من يتمرّد على معتقداته وأفكاره وتوجهاته السائدة.

من المهم التأكيد على أن تجاوز حالة كهذه لن يكون سهلاً أبداً، خصوصاً في مجتمع يمتلك خبرة عريضة في التعايش مع العفن، وتحمله، بل وأحيانا الاستمتاع به. ولذلك، سيكون علينا أن نقاوم، في الوقت نفسه، من يعتقد أنه يمكن أن يتحقق لدينا تقدم أو إصلاح، من دون أن تكون هناك حرية اعتقاد، أو حرية تعبير، ومن يطلب الحرية بجدية واستماتة، فإذا سألته عن مفهومه لها، وجدته يطلب الحرية لنفسه وتوجهه فقط، وألفيته يعتقد أن الديمقراطية هي الوسيلة الحديثة التي تكفل للأغلبية فرض رأيها بقوة القانون على كل الأقليات المخالفة في الرأي والعقيدة، ولكم في (غزوة الصناديق) ذكرى يا أولي الألباب، ومن يعتقد أن حرية الرأي تعني أن يحتفظ الإنسان برأيه لنفسه سراً، فإذا أعلنه، أو دعا إليه غيره، تم اتهامه بالسعي إلى تدمير المجتمع وإثارة الفتنة، مع أن حرية الرأي لا تعني إلا حرية إعلانه والدعوة إليه، وعلى من لا يعجبه ذلك الرأي أن يرد عليه أو ينتقده أو يتجاوزه أو يتجاهله أو يسخر منه أو يسفهه، لكن ليس من حقه أن يقمعه أو يحجبه عن الآخرين، وإلا فإنه يحكم على نفسه بأنه أضعف من مواجهته.

للأسف، سيظل بيننا فترة طويلة قامعون ومقموعون، يعتقدون أننا أمة غير مؤهلة للحرية، لن يصلحها إلا الكرباج، مع أن حالنا لم ينصلح أبداً، لأسبابٍ من أهمها أننا لم نُحكم بغير الكرباج أبداً، وسيظل حالنا يواصل التردّي، حتى يتكون وعي جمعي بضرورة إسقاط حكم كل الكرابيج التي تقمع الاختلاف، سواء أمسك بها جنرالات أو شيوخ أو بطاركة أو جنرالات متحالفون مع الشيوخ والبطاركة أو آباء أو أمهات أو أساتذة أو مثقفون أو مخبرون، أما من سيبقى على اعتقاده بأن العيش بدون كل تلك الكرابيج رفاهية، لا يحتملها مجتمعنا، فستثبت له الأيام، وتجاربها المريرة الدامية، أن حرية العقيدة والرأي والتعبير هي الشرط الأهم الذي سيجلب لمجتمعنا الأمن والاستقرار، اللذيْن لن يحققهما له أبداً تكفير ديني، ولا تخوين وطني، والأيام بيننا.  

يدينا ويديك طولة العمر والبال.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

  

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.