لا أحتفظ من طفولتي سوى بخزانة لعبي الحمراء، خبّأتها في غرفتي المغلقة، حيث أتظاهر بالعمل طويلاً على مكتبٍ متشّقق. أُوصل زوجتي وأطفالي كلّ صباحٍ إلى مدرستهم؛ إذ تعمل زوجتي معلّمة أطفالٍ في المرحلة التمهيدية، وأعود الى خزانتي صباحاً لأكون وحدي، فأنا أعمل في مكتبةٍ قرب المنزل، مكتبتي الصغيرة التي تشبه خزانتي، ولا ضرر في التأخّر في فتحها قليلاً، فلم يعد أحدٌ يبحث عن كتاب.
أبعدت الخزانة عن أيدي أطفالي، ربّما لأنني أخاف أن أقتل أحدهم إذا كسر دمية، فأنا أؤمن بأرواح الدمى، وبدمٍ لا مرئيٍ يجري في داخلها. ومن النقطة الأخيرة سأبدأ حكايتي:
اليوم وأنا أحاكي نفسي قبل أعوام طويلةٍ كما أفعل عادة، شاهدت مسدّساً حديديا منزوياً تحت الألعاب. لم أره في خزانتي من قبل، فقد فقدته حين كنت صغيراً، في نفس اليوم الذي حصلت عليه. كنت في الصف التمهيدي، ذلك الصف الغريب الذي يسبق الصف الأول، وكان المسدّس لصديقي الذي يشاركني المقعد، اشتراه له والده من الخارج. وحين رأيته ممسكاً به أيقظ رغبة في داخلي.
شعرت أن المسدس يناديني ويقول لي "أنا لك"، إذ تذكّرت، لحظةَ رأيته، حادثةَ وقعت لي قبل أسابيع قليلةٍ، حين كنت مع أبي، وحين لم يكد الإمام يسلّم عن يمينه وعن يساره حتى غسل الهواء أزيز الرصاص ورائحة الغاز. لم أفهم الأمر جيّداً، حملني أبي في ظهيرة يوم جمعةٍ حار وركض بي. على كتفَيّ جلس رجلٌ عجوز برداءٍ أسود شاهدته خلف الزجاج في دارنا ذات مساءٍ حين أجبرني والدي على النوم وحيداً في سريري. كان يحمل كيساً كبيراً، ويجمع المشاهد التي أراها بسرعةٍ، وهي تتقافز أمامي كما في حلم.
الحجارة المتكسّرة على الأرض والصرخات: "حرام تكسير حجارة الأقصى"، الخوذة العسكرية الطائرة، الرأس المفتوحة كالبطيخة على التراب وما خرج منها، القميص الأحمر وهو يدقّ بقوةٍ على بابٍ كأن يده تحاول أن تصير مفتاحاً، شرفة بيتنا وصراخ سيارات الاسعاف الذي يشبه أبي وهو جالسٌ أمام الهاتف الأخرس.
لا أذكر كيف حصلت على المسدس، هل كنت أمتلك نقوداً؟ هل بادلته بلعبة ما؟ أم ربما سرقته؟
أذكر، حين أمسكته بيدي، أنني شعرت بأنه هو الآخر يسمك بها، كأنه امتداد لها، حتى أنني شعرت بها تحكّني حين حطّت بعوضةٌ على معدنه الدافئ.
غادرنا المدرسة في الباص المدرسي الصغير، كانوا يكدّسوننا فوق بعضنا كأكياس الأرز، ناضلت كي أجلس قرب النافذة. وحين مررنا قرب الحاجز العسكري، ذلك الذي يفصل منزلنا عن المدرسة، تحدّث المسدس معي:
- حان الوقت.
مددت يدي من النافذة، وجّهت المسدس نحو الحاجز العسكري، صوّبت جيّداً، ثمّ أطلقت.
في اليوم التالي، جعلتني المديرة أعتذر لكل صفوف المدرسة. كنت طفلاً خجولاً، بيد أنني لم أشعر بأيّ خجلٍ. اعتذرت بوقاحةٍ مفرطةٍ إذ أني تلوت الاعتذار كاسمي، وكمن يقرأ خبراً عن دولة بعيدة في جريدةٍ من دون أن يُبدي أيّ تأثرٍ.
وقتها، ووقت وبّخني خالي حين علم بالقصة، لم أكن أفكّر في شيء. لم أكن خجلاً ولا خائفاً من مطاردة الجنود لباصنا المدرسي، أو من فتحهم بابه بقوّةٍ تخالف وصايا العمّ وليد بفتح الباب وإغلاقه بهدوء الربت على ظهر قطّتنا في المدرسة. كنت فقط أعيد المشهد في عينَي مجدّداً:
خروج الرصاصة من مسدّس الأطفال، وقتلها العجوز الأسود الذي حاول اعتراضها، ثم تضخّمها رويداً رويداً في الهواء، حتى صارت تشبه قذيفة هائلة مزجت الانتظار الطويل على الحاجز بأشلاء وضحكات جنودٍ وبنادق أكبر من مسدّسي.
والآن، بينما أُمسك لعبتي التي غابت طويلاً عنّي، والتي عادت في هذا اليوم الغامض، أسمعها تهمس:
- حان الوقت.
* كاتب فلسطيني من القدس