23 أكتوبر 2024
يحدث في المغرب
محمد طيفوري
كاتب وباحث مغربي في كلية الحقوق في جامعة محمد الخامس في الرباط. عضو مؤسس ومشارك في مراكز بحثية عربية. مؤلف كتاب "عبد الوهاب المسيري وتفكيك الصهيونية" و "أعلام في الذاكرة: ديوان الحرية وإيوان الكرامة". نشر دراسات في مجلات عربية محكمة.
تظهر كل المؤشّرات في المغرب أن البلاد تعرف، منذ حوالي سنتين، جواً خانقاً على كل الأصعدة؛ اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً، سماته التوتر وانعدام الثقة واليأس من المستقبل، منذ وأد الحلم الذي تعلق به المغاربة؛ عند تصويتهم على دستور يوليو/ تموز 2011، بقرار الانقلاب الناعم على الإرادة الشعبية، بعد انتخابات أكتوبر/ تشرين الأول 2016.
استطاع الشعب بدءاً من 20 فبراير/ شباط 2011، فرض نفسه طرفاً ثالثاً في المعادلة السياسية في البلد، بعد عقود طويلة احتكرها المخزن والأحزاب؛ مع بقاء امتياز السيطرة والغلبة لصالح الأول أزيد من نصف قرن. بذلك كانت إرادة الشعب؛ طوال السنوات التي تلت وضع الدستور، فاعلاً رئيسياً في كل متغيرات الساحة السياسية، على الرغم من المحاولات المتكرّرة من أجل التأثير عليها.
كان الإعلان عن حكومة أبريل/ نيسان 2017، لحظة الانزياح الديمقراطي بامتياز، إذ شكلت فرصة لإعادة قواعد اللعبة السياسية التقليدية، من خلال العمل على إسقاط "الإرادة الشعبية" من موازين القوى، وفرض هندسة حكومية، لا صلة لها بمخرجات صناديق الاقتراع. وبذلك يكون جوهر الأزمة التي تصنع تطوراتها المتنامية "استثناء مغربياً"؛ بالمعنى السلبي هذه المرة، سياسياً بلا منازع، فإصرار المخزن على معاندة إرادة المغاربة المتمثلة في خيار الإصلاح، والتقرير بدلاً عنهم في وضع أشبه ما يكون بالقاصر أو المحجور عليه، أدى إلى انسدادٍ في الأفق، تولد عنه إحباط عام وشامل.
أحيا تدهور كل المؤشرات من جديد ظاهرة الهجرة السّرية التي ظن المغاربة أن بلادهم قطعت مع يوميات "قوارب الموت"، بإطلاق مسلسل الإصلاحات الكبرى، بعد أحداث الربيع المغربي، وانتقال المغرب من بلد مصدّر للهجرة إلى بلد مستقبلٍ لها، مقدّماً نفسه "دولة نموذجية"،
استطاعت تسوية وضعية آلاف الأفارقة، من خلال ضمان إدماجهم اجتماعياً واقتصادياً.
العودة إلى خيار ركوب أمواج الأبيض المتوسط في اتجاه "الفردوس الأوروبي" دليل على فشل الدولة في تأمين الحقوق الأساسية لأبنائها، ما ولّد لديهم شعوراً بعدم الانتماء إلى الوطن. لكن هذه الاستعادة رافقتها معطياتٌ جديدةٌ لم يعتدها المغاربة في الظاهرة. إذ لأول مرة سوف يُرفع "طابع السرية" عن هذه الهجرة، حيث أضحت موجات الهجرة علانيةً في الوقت الراهن. لا بل تطور الأمر في بعض المدن المغربية (تطوان، الدار البيضاء) إلى رفع المواطنين شعارات للمطالبة بالحق في الهجرة "الشعب يريد الحريك"، والتعبير عن رغبتهم في التخلي عن الجنسية المغربية.
في الماضي، كانت هذه المغامرة مرتبطةً بفئة الشباب، لكنها اليوم تحوّلت إلى رغبة جماعية تراود الكل، فقد تداولت مواقع إخبارية مقاطع فيديو، تظهر مغاربة من مختلف الفئات العمرية؛ بما فيهم الأطفال، على متن قوارب صغيرة في وسط البحر، يعبّرون عن فرحتهم بالهروب من جحيم المعيش اليومي في الوطن.
تدفق أفواج المهاجرين نحو الشواطئ الإسبانية في ارتفاع متزايد، وفق مصادر رسمية إسبانية، في ظل أزمة دبلوماسية صامتة بين الرباط ومدريد، فقد بلغ الرقم القياسي الجديد أكثر من 41 ألف مهاجر بمَتَمِّ شهر سبتمبر/ أيلول الماضي، متجاوزاً بذلك الرقم المسجل سنة 2006. دفع ذلك البحرية الملكية إلى التدخل، لوقف هذا "النزوح"، مستعملةً من أجل ذلك الرصاص الحي، في مواجهة المهاجرين، ما أودى بحياة شابة مغربية، كانت من بين المرشحين. واقعة أساءت كثيراً لسمعة "أجمل بلد في العالم"، حيث احتلّت صدارة الأخبار العالمية دولةً تقتل مواطنيها في وسط البحر.
الأزمة التي أحدثت التنكّر لإرادة المواطنين والغدر بهم أفضت إلى تدهور الأوضاع على كل المستويات داخلياً، ما انعكست على تصنيف المغرب، في تقرير الأمم المتحدة حول التنمية البشرية؛ المعيار الرئيسي المعتمد لتقييم الأوضاع المعيشية في دول العالم. حيث جثم البلد؛ للسنة الثانية على التوالي، في المركز 123 عالمياً. فيما حققت معظم دول الجوار مراتب جيدة في تقرير هذا العام، فجاءت إسبانيا في المركز 26، والجزائر جارته الشرقية في المركز 85، فيما احتلت تونس المرتبة 95، بل حتى ليبيا التي تعيش حالة شبه حربٍ أهلية جاءت في المركز 108 متقدّمة عليه بـ 15 درجة.
درج المغرب، في السابق، على اتهام تقارير هذه المنظمات بالانحياز، والجهل بأوضاع البلاد، وافتقادها الدقة والموضوعية. وبلغ الأمر أحياناً درجة اتهام المشرفين عليها بالتآمر ضد
مؤسسات البلاد، لكنه عدَل عن هذا الأسلوب، في السنوات الأخيرة، بعدما أيقن أن الحقيقة هي ما تحكي عنه تلك التقارير، لا ما تروّجه جوقة المطبلين في السياسة والإعلام.
تتكرر النبرة بشأن تزايد منسوب الاحتقان وانعدام الأمل، في تقرير صدر قبل أيام لهيئة رسمية، هي المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، الذي تحدث بلغة نقدية حادّة حيال الوضع في المغرب، فبحسب التقرير "فقدت شرائح واسعة من المغاربة الثقة، كما فقدت الأمل في القدرة على بلوغ مستوى عيش أفضل". ووفق التقرير دائماً، الثقة ذات المضمون السياسي؛ أي الثقة في المؤسسات، سجلت تراجعاً كبيراً، ما تولد عنه عدم اعتقاد جمعي في إرادة الدولة بحماية وإنفاذ القانون.
في غمرة هذا الاحتقان، يكتفي أعضاء الحكومة؛ كل حسب استطاعته، بأسلوب الفقاعات الإعلامية، فهذا رئيسها يقول إن: "دو فيلبان الوزير الأول الفرنسي السابق أخبره أن المغرب أحسن من فرنسا". فيما يستنكر الناطق الرسمي باسمها موجات الهجرة نحو أوروبا، معبراً أن "المغرب يوفر فرص شغل هائلة". أما باقي مكوّنات التحالف الحكومي (ستة أحزاب) فاختارت أن يكون الصراع بينها هو الأصل؛ ففي كل مرة نسمع عن تصدّع داخل الحكومة، لعلها تتمكّن من لفت الأنظار عن جوهر المشكل ولو مؤقتاً.
أجراس الخطر تدق من هيئات وطنية وأخرى دولية، محذّرة من مغبة قادم أسوأ يتهدد الجميع، لكن لا أحد من المتواطئين على اختطاف "الإرادة الشعبية" يبالي. ببساطة، لأنهم جزء من المشكل، ولن يكونوا إطلاقاً جزءاً من الحل.
استطاع الشعب بدءاً من 20 فبراير/ شباط 2011، فرض نفسه طرفاً ثالثاً في المعادلة السياسية في البلد، بعد عقود طويلة احتكرها المخزن والأحزاب؛ مع بقاء امتياز السيطرة والغلبة لصالح الأول أزيد من نصف قرن. بذلك كانت إرادة الشعب؛ طوال السنوات التي تلت وضع الدستور، فاعلاً رئيسياً في كل متغيرات الساحة السياسية، على الرغم من المحاولات المتكرّرة من أجل التأثير عليها.
كان الإعلان عن حكومة أبريل/ نيسان 2017، لحظة الانزياح الديمقراطي بامتياز، إذ شكلت فرصة لإعادة قواعد اللعبة السياسية التقليدية، من خلال العمل على إسقاط "الإرادة الشعبية" من موازين القوى، وفرض هندسة حكومية، لا صلة لها بمخرجات صناديق الاقتراع. وبذلك يكون جوهر الأزمة التي تصنع تطوراتها المتنامية "استثناء مغربياً"؛ بالمعنى السلبي هذه المرة، سياسياً بلا منازع، فإصرار المخزن على معاندة إرادة المغاربة المتمثلة في خيار الإصلاح، والتقرير بدلاً عنهم في وضع أشبه ما يكون بالقاصر أو المحجور عليه، أدى إلى انسدادٍ في الأفق، تولد عنه إحباط عام وشامل.
أحيا تدهور كل المؤشرات من جديد ظاهرة الهجرة السّرية التي ظن المغاربة أن بلادهم قطعت مع يوميات "قوارب الموت"، بإطلاق مسلسل الإصلاحات الكبرى، بعد أحداث الربيع المغربي، وانتقال المغرب من بلد مصدّر للهجرة إلى بلد مستقبلٍ لها، مقدّماً نفسه "دولة نموذجية"،
العودة إلى خيار ركوب أمواج الأبيض المتوسط في اتجاه "الفردوس الأوروبي" دليل على فشل الدولة في تأمين الحقوق الأساسية لأبنائها، ما ولّد لديهم شعوراً بعدم الانتماء إلى الوطن. لكن هذه الاستعادة رافقتها معطياتٌ جديدةٌ لم يعتدها المغاربة في الظاهرة. إذ لأول مرة سوف يُرفع "طابع السرية" عن هذه الهجرة، حيث أضحت موجات الهجرة علانيةً في الوقت الراهن. لا بل تطور الأمر في بعض المدن المغربية (تطوان، الدار البيضاء) إلى رفع المواطنين شعارات للمطالبة بالحق في الهجرة "الشعب يريد الحريك"، والتعبير عن رغبتهم في التخلي عن الجنسية المغربية.
في الماضي، كانت هذه المغامرة مرتبطةً بفئة الشباب، لكنها اليوم تحوّلت إلى رغبة جماعية تراود الكل، فقد تداولت مواقع إخبارية مقاطع فيديو، تظهر مغاربة من مختلف الفئات العمرية؛ بما فيهم الأطفال، على متن قوارب صغيرة في وسط البحر، يعبّرون عن فرحتهم بالهروب من جحيم المعيش اليومي في الوطن.
تدفق أفواج المهاجرين نحو الشواطئ الإسبانية في ارتفاع متزايد، وفق مصادر رسمية إسبانية، في ظل أزمة دبلوماسية صامتة بين الرباط ومدريد، فقد بلغ الرقم القياسي الجديد أكثر من 41 ألف مهاجر بمَتَمِّ شهر سبتمبر/ أيلول الماضي، متجاوزاً بذلك الرقم المسجل سنة 2006. دفع ذلك البحرية الملكية إلى التدخل، لوقف هذا "النزوح"، مستعملةً من أجل ذلك الرصاص الحي، في مواجهة المهاجرين، ما أودى بحياة شابة مغربية، كانت من بين المرشحين. واقعة أساءت كثيراً لسمعة "أجمل بلد في العالم"، حيث احتلّت صدارة الأخبار العالمية دولةً تقتل مواطنيها في وسط البحر.
الأزمة التي أحدثت التنكّر لإرادة المواطنين والغدر بهم أفضت إلى تدهور الأوضاع على كل المستويات داخلياً، ما انعكست على تصنيف المغرب، في تقرير الأمم المتحدة حول التنمية البشرية؛ المعيار الرئيسي المعتمد لتقييم الأوضاع المعيشية في دول العالم. حيث جثم البلد؛ للسنة الثانية على التوالي، في المركز 123 عالمياً. فيما حققت معظم دول الجوار مراتب جيدة في تقرير هذا العام، فجاءت إسبانيا في المركز 26، والجزائر جارته الشرقية في المركز 85، فيما احتلت تونس المرتبة 95، بل حتى ليبيا التي تعيش حالة شبه حربٍ أهلية جاءت في المركز 108 متقدّمة عليه بـ 15 درجة.
درج المغرب، في السابق، على اتهام تقارير هذه المنظمات بالانحياز، والجهل بأوضاع البلاد، وافتقادها الدقة والموضوعية. وبلغ الأمر أحياناً درجة اتهام المشرفين عليها بالتآمر ضد
تتكرر النبرة بشأن تزايد منسوب الاحتقان وانعدام الأمل، في تقرير صدر قبل أيام لهيئة رسمية، هي المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، الذي تحدث بلغة نقدية حادّة حيال الوضع في المغرب، فبحسب التقرير "فقدت شرائح واسعة من المغاربة الثقة، كما فقدت الأمل في القدرة على بلوغ مستوى عيش أفضل". ووفق التقرير دائماً، الثقة ذات المضمون السياسي؛ أي الثقة في المؤسسات، سجلت تراجعاً كبيراً، ما تولد عنه عدم اعتقاد جمعي في إرادة الدولة بحماية وإنفاذ القانون.
في غمرة هذا الاحتقان، يكتفي أعضاء الحكومة؛ كل حسب استطاعته، بأسلوب الفقاعات الإعلامية، فهذا رئيسها يقول إن: "دو فيلبان الوزير الأول الفرنسي السابق أخبره أن المغرب أحسن من فرنسا". فيما يستنكر الناطق الرسمي باسمها موجات الهجرة نحو أوروبا، معبراً أن "المغرب يوفر فرص شغل هائلة". أما باقي مكوّنات التحالف الحكومي (ستة أحزاب) فاختارت أن يكون الصراع بينها هو الأصل؛ ففي كل مرة نسمع عن تصدّع داخل الحكومة، لعلها تتمكّن من لفت الأنظار عن جوهر المشكل ولو مؤقتاً.
أجراس الخطر تدق من هيئات وطنية وأخرى دولية، محذّرة من مغبة قادم أسوأ يتهدد الجميع، لكن لا أحد من المتواطئين على اختطاف "الإرادة الشعبية" يبالي. ببساطة، لأنهم جزء من المشكل، ولن يكونوا إطلاقاً جزءاً من الحل.
دلالات
محمد طيفوري
كاتب وباحث مغربي في كلية الحقوق في جامعة محمد الخامس في الرباط. عضو مؤسس ومشارك في مراكز بحثية عربية. مؤلف كتاب "عبد الوهاب المسيري وتفكيك الصهيونية" و "أعلام في الذاكرة: ديوان الحرية وإيوان الكرامة". نشر دراسات في مجلات عربية محكمة.
محمد طيفوري
مقالات أخرى
11 أكتوبر 2024
22 سبتمبر 2024
03 سبتمبر 2024