يافا المسلوبة: بيوت وقصور ومسارح منسيّة

19 فبراير 2017
حوّلت إسرائيل أملاك فلسطينيين في يافا إلى كنس(العربي الجديد)
+ الخط -
رغم دمار المئات من بيوت وقصور يافا في عام النكبة 1948 وما بعد ذلك في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، خاصة في حي العجمي والجبليّة، بقيت بضعة بيوت صامدة، رغم الدمار الذي ألحق بها الكيان الصهيوني في السابق. هذه البيوت التي بنيت في العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي، خارج أسوار المدينة، شكّلت البنية الأساسيّة للأحياء الجديدة والمزدهرة مثل حي النزهة وأبو الجبين والعجمي وغيرها من الأحياء التي سكنها أهالي يافا من الطبقات العليا وأضافت رونقاً وجمالاً للمدينة الأجمل في المنطقة آنذاك، والتي أصبحت المدينة المركزيّة في فلسطين ووصل عدد سكّانها إلى ما يقارب الثمانين ألف نسمة (لا يشمل سكّان القرى المحيطة بها الذين وصل عددهم إلى ما يقارب الأربعين ألف نسمة).

منذ النكبة تحوّلت كل أملاك اللاجئين تحت سيطرة كيان الاحتلال الإسرائيلي وتم تسجيل كل الممتلكات التي سُلبت من أصحابها في سجلّات "مديرية أراضي إسرائيل"، ومن ثم تم التعامل معها كأملاك قابلة للبيع (قبل سنواتٍ قليلة)، بعد أن تمّ إدخال تعديلات في القانون الإسرائيلي من أجل "خصخصة أملاك الغائبين"، وذلك بهدف طمس كل ملكٍ فلسطينيٍ وأسرلته بقدر الإمكان، على الرغم من غياب الملّاكين الذين تهجّروا قسرًا عام النكبة.

من يتجوّل سيرًا على الأقدام في هذه البلدة الخلّابة، وعلى سبيل المثال في حي النزهة الذي تأسّس قبل مئة عام، ويتمعّن في مبانيه العريقة، يعتقد للوهلة الأولى أنّه في مدينة غرب أوروبيّة بسبب طراز العمران الغربي الحديث الشبيه بالبنيان الأوروبي، والذي ملأ الحارات المختلفة في العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي. كذلك توجد العديد من بيوت السينما والمسارح في هذا الحي، وبالتحديد في الجهة الشماليّة من شارع جمال باشا "كينغ جورج"، مثل سينما الحمرا، والتي بُنيت في سنوات الثلاثينيات من القرن الماضي، والتي اشتهرت لاستضافتها عمالقة الفن المصري والعربي كالسيّدة أم كلثوم وفريد الأطرش ومحمد عبد الوهاب، كما عُرضت فيها أشهر الأفلام السينمائيّة المصريّة في السنوات المعدودة حتى نكبة عام 1948.

أما بعد النكبة فقد تمّ استغلالها من قبل الكيان الصهيوني، إذ حوّلها إلى المصرف المحلي ومن ثم تُركت مهجورة بضعة سنوات حتى عام 2011، بحيث استثمرت في ترميم المبنى مجموعة "الساينتولوجي" التي تعتبر كنيسة محظورة في الولايات المتحدة وأوروبا لكونها ذات طابع علماني - تجاري بعيد كل البعد عن الكنائس التقليديّة.

وفي نفس الشارع كانت أيضًا سينما نبيل لصاحبها علي المستقيم، وأمامها سينما رشيد، بالإضافة إلى سينما فاروق المحاذية لسينما الحمرا والعديد من دور السينما الصغيرة في كافّة أنحاء البلدة وأقدمها "سينما أبولو" في شارع الحلوة. كذلك تم آنذاك بناء عمارة البلديّة الجديدة، والتي ما زالت قائمة حتى يومنا هذا ولكّنها تحوّلت لمكاتب شركة "عميدار" الإسرائيليّة التي تدير شؤون البيوت المسلوبة وأملاك اللاجئين المنتشرة في جميع أنحاء البلدة.

بالإضافة إلى حيّ النزهة، انتشر بناء العديد من القصور الفاخرة في جميع أحياء يافا والتي تحوّلت بين يوم وليلة إلى "أملاك الغائبين" وعلى مدار عشرات السنين جرت إدارة شؤونها من قبل "مديريّة أراضي إسرائيل" وشركة "عميدار" التي جنت أرباحًا طائلة على مدار السنين من إيجار هذه القصور، بالإضافة إلى البيوت العديدة التي تُركت من قبل أصحابها خوفًا من الحرب الدامية في نيسان 1948، إذ أصبحت مدينة يافا شبه فارغة ومحاصرة عسكريًا من ثلاث الجهات من قبل العصابات الصهيونيّة التي لم تأبه بوجود الجيش البريطاني واستغلّت فرصة جلائها في 14/ 5/ 1948 على أكمل وجه، إذ احتلّت يافا وقراها بسهولة كبيرة، وذلك بعد انسحاب قوّات جيش الإنقاذ من قرية يازور قبل شهرين من جلاء الإنكليز.

من الجدير بالذكر أن بعض البيوت العربيّة تحوّلت من بعد النكبة ببضعة أشهر إلى كُنُس يهوديّة، ولم يتم تحرير سوى كنيس واحد في شارع العجمي، ألا وهو البيت الذي يتبع لجمعيّة الرابطة لرعاية شؤون عرب يافا التي تأسّست عام 1979 ولعبت دوراً مهماً آنذاك في إعادة إعمار بيوت يافا غير المصانة وفي توعية جيل الشباب العربي اليافاوي الصاعد.

قصور أخرى صمدت ولم يتم هدمها رغم النكبة هي قصر آل شعث بالقرب من شارع غزة، والذي تحوّل لمؤسّسة لمكافحة استعمال المخدّرات وقصر آل عبد الرحمن في حي الجبليّة، والذي يقيم فيه منذ عشرات السنين، السفير الفرنسي لدى إسرائيل. كذلك تحوّل قصر آل طيبي في حي العجمي لفترة معيّنة إلى "صندوق المرضى" وتم إغلاقه منذ التسعينيات من القرن الماضي، وتمّ أيضًا تحويل قصر آل شيخ علي إلى المحكمة العسكريّة الإسرائيليّة.

وفي حديث مع المؤرّخ اليافاوي، يوسف عصفور، عن هذه الظاهرة، قال لـ"العربي الجديد": "حينما احتلت إسرائيل الضفّة الغربيّة عام 1967 احتلت الأرض، بينما في عام 1948 ادعت تل أبيب في البداية أنها تحترم القانون الدولي وقرار التقسيم 181. وبما أن 26% من الممتلكات الفلسطينيّة في الداخل كانت أملاكاً خاصة، وعلى الأغلب كانت بيوتاً وعقارات خاصّة قامت إسرائيل بتحويلها إلى أملاك الغائبين من خلال قانون الحاضر الغائب، وبذلك تم تأجيرها وحتى الوصول إلى اتفاق رسميّ مع الفلسطينيين، سيتم إعطاء الأموال للفلسطينيين. ولكن في الخمسينيّات بسبب الوضع الاقتصادي المتدنيّ الذي أصاب الكيان العبريّ، تمّ تحويل الأملاك إلى سيطرة شركة التطوير، وكل من بقي وأراد العودة حصل على ثلث ملكيّة بيته والباقي للشركة".

وأضاف عصفور: "أمّا القصور العديدة التي سُلبت زمن النكبة تحولت لمؤسسات، فعلى سبيل المثال تنافس أقطاب الجيش الإسرائيلي من أجل السيطرة على البيوت والقصور الضخمة في يافا وبذلك تحوّل جزء منها إلى قواعد عسكريّة مثل المدرسة الأرثوذكسيّة والأرمنيّة. في الثمانينيات بدأت الخصخصة ومن وقتها بإمكان كل شخص أن يشتري أي بيت أو قصر من هذه القصور المهجورة، فعلى سبيل المثال قصر آل طيبي قيمته الحالية وصلت إلى أربعة ملايين شيقل".
هكذا تحوّلت قضيّة شعب إلى قضيّة اقتصاديّة، حسب سياسة إسرائيل.

المساهمون