ياسمينة في قلب الحديد

12 ابريل 2016

وداعاً لقلب زها حديد الذي طعن مرتين

+ الخط -
من كان يظن أن الياسمين لا يزهر فوق الحديد فهو لم يعرف زها حديد، المرأة العراقية التي أعادت هندسة أوروبا، بمسطرة وفرجار عربيّين، استأنفت بهما خطوطاً حضارية، تقطعت مع انقطاع طريق الحرير في الربع الخالي.
رحلت أعظم مهندسة معمارية في الزمن الحديث، بأزمة قلبية مفاجئة، بحسب مصادر طبية في لندن، وبأزمة عربية، وفق مصادر أكثر دقة، ذلك أن قلب زها فقد الأمل بإعادة هندسة العراق، بعيداً عن "المعمار الطائفي" الذي أراده بريمر، وجسّده تلامذته على أبدع ما تكون الرغبة في التفتيت والتشتيت.
مضت زها، بعد أن أصبحت الأوطان العربية برمتها أمكنة غير صالحة للحياة البشرية، فكيف بالإبداع البشري الذي يحتاج أكثر من بقعة ترابٍ وحفنة هواء، هما كل ما جادت به أفضال الحكام العرب على شعوبهم.
خسرنا زها حديد، كما خسرنا قبلها إدوارد سعيد، وأحمد زويل، ومجدي يعقوب، نجوماً ما كان لها أن تضيئ، لو جانبها الحظ وبقيت رهينة المحبسين في أوطانها، محبس الأنظمة التي لا تعترف بغير إبداعات السياط والمخبرين والمرتشين، ومحبس الشعوب التي ما عادت تطلب من أنظمتها غير أن تبقي على "سلخها بعد ذبحها"، وليس قبل ذلك.
لم يجف حبر رثائي الشاعر العراقي عبد الرزاق عبد الواحد قبل أشهر، وقبله عبد الوهاب البياتي، ومحمد مهدي الجواهري، وقلت، حينها، إن الناظم الوحيد الذي بات يربط بين المبدعين العراقيين الكبار هو موتهم خارج أوطانهم، سواء كان النفي قسرياً أو طوعياً، وها هي زها حديد تنضم إلى القائمة، لا لتختمها، بل لتضيف إليها اسماً آخر، ستخجل أمامه أجيال وأجيال، وهي ترى أن الوطن العربي الذي استحال قبراً كبيراً عجز عن ضمّ جسد هذه المبدعة الكبيرة بكل المقاييس، أو ربما كان خيارها أن ترقد في مسقط رأسٍ آخر، كان أكثر اهتماماً برأسها، وهي على قيد الحياة، فأفرد لها الأرض والسماء وما بينهما مضماراً لإبداعها الحر، وهو ما لم تستطعه بلادٌ جارت عليها ولم تعد عزيزة، على خلاف كذبة شاعرنا القديم التي اتخذتها أنظمتنا شعاراً لها، لتجعل شعوبها أكثر تآلفاً مع القمع والكبت والجور.
غير أن مما يضاعف فجيعة الفقد على زها، وبقية الشموس العربية التي تشرق من "الغرب"، أنه يأتي تزامناً مع هجوم "الغربان" الجديدة التي باتت تحتل سماء أوروبا بأحزمتها الناسفة، لتنسف معها سائر تلك الوجوه العربية المشرقة التي صدّرناها إلى الغرب، لنقنعه بأننا أمة حضارة وإبداع، وبوسع نجومنا أن تحتل سماءه كلها بألقها.
كنا نود أن نقول للغرب إن لدينا معماريين يصممون دور الأوبرا، ومفكرون كإدوارد سعيد، في وسعهم "نسف" استشراقهم الكاذب كله، بالحوار الحضاري، غير أن هذه الغربان تأتي لتشوه الصورة التي أمضينا ردحاً طويلاً من الزمن في محاولة ترميمها، فيغدو، في مقابل زها حديد، الأخوان بكري، وفي مقابل إدوارد سعيد الأخوان كواشي. ولا ندري بعد ذلك من هما الأخوان المرشحان لنسف إنجازات مجدي يعقوب، لأن حملة الأحزمة الناسفة هناك لا يُجهزون على الحضارة الغربية وحدها، بل يتحرّون الإجهاز على سفراء حضارتنا نحن أيضاً الذين نجحنا بانتشالهم من براثن "آل فرعون الجدد"، وأودعناهم في سفن أحلامنا الصغيرة، لترسو بهم على شواطئ تقدّس الإنسان وحرياته. وباختصار، يمكنني التجرؤ على القول إن هذه الغربان لا تقصد الغرب بأحزمتها، بل تقصدنا نحن، بضربنا في أنبل من أنجبناه لينافس الغرب على معركة الحضارة.
وداعاً لقلب زها الذي طعن مرتين، مرة من وطنها العربي الذي ضاق بإبداعها، فهجرته إلى غير عودة، ومرة أخرى بالوطن العربي، أيضاً، الذي طاردها إلى المنفى، بغربانه، فلم يعد يحتمل كل هذه الأزمات مجتمعةً، مؤثراً الرحيل، ولم يبق منها غير الياسمين الطالع من قلب الحديد.
EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.