04 نوفمبر 2024
وهم تقسيم العراق الذي أصبح واقعاً
تقسيم العراق الذي كان كابوساً سيطر على قلوب مواطنيه منذ الغزو الأميركي لبلدهم، سنة 2003، مروراً باحتلاله المباشر، وصولاً إلى الحكومات التي نصَّبها الاحتلال، جاءت فترة تبدَّد فيها هذا الكابوس، واعتبره بعضهم وهماً حينها، عاد هذا التقسيم الآن ليتبدّى باستفتاء إقليم كردستان العراق على الانفصال. وإن كانت المشكلات المزمنة التي توارثتها الحكومات العراقية عن بعضها، والتي استمرت بلا حل، هي التي دفعت الأكراد إلى إجراء الاستفتاء، فإن طريقة تعاطي الحكومة الحالية مع الحادث، هي التي ستكرس الانفصال، وبالتالي التقسيم.
ففي سبتمبر/ أيلول سنة 2007، أي قبل عشر سنوات، كتب الأميركي الراحل، رون جاكوبز، في مقالته "وهم تقسيم العراق والاستيلاء عليه"، عن صعوبة تحقيق أي مشروعٍ تقسيميٍّ في العراق، على الرغم من تصويت مجلس الشيوخ الأميركي، في الشهر عينه، على توصيةٍ تقول بتقسيمه إلى مناطق ذات "شبه استقلالٍ ذاتي"، أي "خطة بايدن" (تقدم رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي، جوزيف بايدن، بها سنة 2006). واستند جاكوبز في وجهة نظره إلى المقاومة العراقية التي كان يُعوَّل عليها في تقويض الحلم الأميركي هذا، غير أن ذلك الحلم لم يكن يطمح إلى رؤية النور في يومه، بل بعد سنوات، قد تكون السنوات العشر التي مرَّت توطئة له، خصوصاً مع استفتاء إقليم كردستان العراق، الذي جرى في 25 سبتمبر/ أيلول الماضي.
غير أن المقالة التي نشرها الكاتب في موقع Znet الأميركي الرصين، وتحدثت عن غضبٍ بدا على العراقيين، من حكام المنطقة الخضراء، جرّاء المعلومات التي تكشفت بشأن ممارسات شركة، بلاك ووتر الأميركية، تجلت في لغتهم الاحتجاجية، أوردت معلومات عن ضغطٍ
أميركي، سرعان ما جعل هذه اللغة تعود إلى الاعتدال. فمن يطالب بخروج هؤلاء المرتزقة من العراق ومحاكمتهم على جرائمهم، سيتحول إلى وضع الأوسمة على صدورهم في مرحلة قريبة. إن حكومة مطواعة، على غرار الحكومات العراقية، في تلك الفترة، هي سبيل واشنطن إلى تقسيم العراق، وغيره من الدول التي ترفض الخضوع لمطالبها، لكن مقاومةً عراقيةً تستطيع أن تطرد المحتل، هي من سيحافظ على وحدة البلاد، إلا أن تلك المقاومة أُجهِضت، واستمر مشروع التقسيم، حتى وصلنا إلى الاستفتاء أخيرا.
ولكن، إذا كانت سياسات الحكومات العراقية، بعد الغزو الأميركي، هي التي أوصلت البلد إلى حالة التشرذم الطائفي والعشائري والمناطقي التي صبغت وجهه وشلَّته. وفي النتيجة، دفعت الأكراد إلى إجراء استفتاء على الانفصال، فإن سياستها بعد الاستفتاء هي التي ستكرّس إقليم كردستان كياناً مستقلاً، وبالتالي تقسيم العراق بدءاً من الشمال. وليس لدى الحكومة العراقية الحالية من حيلةٍ لمنع هذه الانفصال، وهو ما دفعها إلى الهجوم، حيث كان الأجدى لها محاولاتها احتواءه قبل إجرائه، عبر تغيير سياستها والنظر في مظلومية كل الأطراف العراقية ومعالجتها، قبل أن تصبح المشكلات العالقة بمثابة غرغرينا، تفتك في الجسد العراقي، فيمسي بتر الأطراف حلاً لها.
ومن دون أن تدري، شاركت حكومة حيدر العبادي في تكريس الإقليم كياناً عبر قرارها فرض العقوبات والحصار عليه، بعد صدور نتائج الاستفتاء، من أجل إجبار مسؤوليه على إلغاء نتائج الاستفتاء، فعقوبات هذه الحكومة، إضافة إلى العقوبات الإيرانية والتركية، وفرضهما الحصار على الإقليم، حدَّدت الكيان في بقعة جغرافية وإدارية، يطبق عليها الحصار، جعلته منسلخاً عن باقي أجزاء البلاد، وهو ما يعطيه الملامح التي يحتاجها ليبدو دولةً. ولا تحتاج هذه الدولة سوى إلى رئيسٍ وبرلمانٍ وحكومةٍ مستقلّةٍ عن الحكومة المركزية في بغداد، لكي تتكرّس، وهو ما سيباشر فيه مسؤولو الإقليم عبر الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التي أعلنَت المفوضية العليا للانتخابات في الإقليم أنها ستجري، بداية نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل.
وتبيَّنَ من تصريحات المسؤولين الأكراد أن قادة الإقليم تحسَّبوا لليوم التالي للاستفتاء، فلا شك
إن لدى من يُقدِم على خطوةٍ كهذه خطة لمواجهة مفاعيلها، وللتعامل مع ردود الفعل، على الأقل خطط مواجهة حصارٍ يمكن أن تفرضه الدول المحيطة بالإقليم، وهو ما أوضحه قائمقام محافظة أربيل، حين تحدث عن خطة طوارئ وُضعت قبل إجرائه. فتبعاً لكلامه، لدى الإقليم مخازين من السلع والمواد التموينية تكفيه ستة أشهر، علاوة على أن عجلة الإنتاج الصناعي والزراعي لن تتوقف عن مَدِّهِ بحاجاته. يضاف إلى ذلك توفُّر الموارد والمشتقات النفطية، وهو عنصر قوة يمتلكها الإقليم. كما أن الحصار سيزيد من التفاف أبناء كردستان العراق حول قيادتهم، وسيزيد من عزيمتهم على الانفصال، وتحمُّلهم التبعات، وربما سنوات، ردّ فعلٍ على الحصار والعقوبات.
يبقى الموقف الأميركي الذي تجلى بتمني المسؤولين الأميركيين على قادة الإقليم تأجيل الاستفتاء وترديدهم هذه العبارة، في فترة ما قبل إجرائه، ليتكلل بموقف وزارة الخارجية الأميركية التي عبرت عن خيبة أملها بعد إجرائه. وإن لم يكن الأميركيون قد صرّحوا أن دولةً كردية ستكون في مصلحة واشنطن، لكونها ستحد من تنامي قوة إيران في المنطقة، وستكون إسفيناً في طريق تمدّدها، لقلنا إنهم، فعلاً، ليسوا مرتاحين لقرار إجراء الاستفتاء، وهم الذين وضعوا خطط التقسيم، الخطة تلوَ الأخرى.
قد لا يكون الاستفتاء على انفصال إقليم كردستان العراق انعكاساً للخطط الأميركية في هذا السياق، إلا أنه نتيجة آجلة لغزو البلاد واحتلالها. وحيث إن سياسات الحكومات العراقية المتتالية هي ما دفع نحو هذا الاستفتاء، فإن هذا الاستفتاء توطئة لتقسيم البلاد. وكما لم تعرف تلك الحكومات التعامل مع الأزمات التي تؤدي إلى أكثر من الانفصال، فإن استمرارها بمعالجة النتائج، بدلاً من اجتثاث المشكلات، هو دفع نحو مزيد من تجارب الانفصال التي ربما وجدت طريقها من الأدراج إلى الطاولات، هذه الأيام.
ففي سبتمبر/ أيلول سنة 2007، أي قبل عشر سنوات، كتب الأميركي الراحل، رون جاكوبز، في مقالته "وهم تقسيم العراق والاستيلاء عليه"، عن صعوبة تحقيق أي مشروعٍ تقسيميٍّ في العراق، على الرغم من تصويت مجلس الشيوخ الأميركي، في الشهر عينه، على توصيةٍ تقول بتقسيمه إلى مناطق ذات "شبه استقلالٍ ذاتي"، أي "خطة بايدن" (تقدم رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي، جوزيف بايدن، بها سنة 2006). واستند جاكوبز في وجهة نظره إلى المقاومة العراقية التي كان يُعوَّل عليها في تقويض الحلم الأميركي هذا، غير أن ذلك الحلم لم يكن يطمح إلى رؤية النور في يومه، بل بعد سنوات، قد تكون السنوات العشر التي مرَّت توطئة له، خصوصاً مع استفتاء إقليم كردستان العراق، الذي جرى في 25 سبتمبر/ أيلول الماضي.
غير أن المقالة التي نشرها الكاتب في موقع Znet الأميركي الرصين، وتحدثت عن غضبٍ بدا على العراقيين، من حكام المنطقة الخضراء، جرّاء المعلومات التي تكشفت بشأن ممارسات شركة، بلاك ووتر الأميركية، تجلت في لغتهم الاحتجاجية، أوردت معلومات عن ضغطٍ
ولكن، إذا كانت سياسات الحكومات العراقية، بعد الغزو الأميركي، هي التي أوصلت البلد إلى حالة التشرذم الطائفي والعشائري والمناطقي التي صبغت وجهه وشلَّته. وفي النتيجة، دفعت الأكراد إلى إجراء استفتاء على الانفصال، فإن سياستها بعد الاستفتاء هي التي ستكرّس إقليم كردستان كياناً مستقلاً، وبالتالي تقسيم العراق بدءاً من الشمال. وليس لدى الحكومة العراقية الحالية من حيلةٍ لمنع هذه الانفصال، وهو ما دفعها إلى الهجوم، حيث كان الأجدى لها محاولاتها احتواءه قبل إجرائه، عبر تغيير سياستها والنظر في مظلومية كل الأطراف العراقية ومعالجتها، قبل أن تصبح المشكلات العالقة بمثابة غرغرينا، تفتك في الجسد العراقي، فيمسي بتر الأطراف حلاً لها.
ومن دون أن تدري، شاركت حكومة حيدر العبادي في تكريس الإقليم كياناً عبر قرارها فرض العقوبات والحصار عليه، بعد صدور نتائج الاستفتاء، من أجل إجبار مسؤوليه على إلغاء نتائج الاستفتاء، فعقوبات هذه الحكومة، إضافة إلى العقوبات الإيرانية والتركية، وفرضهما الحصار على الإقليم، حدَّدت الكيان في بقعة جغرافية وإدارية، يطبق عليها الحصار، جعلته منسلخاً عن باقي أجزاء البلاد، وهو ما يعطيه الملامح التي يحتاجها ليبدو دولةً. ولا تحتاج هذه الدولة سوى إلى رئيسٍ وبرلمانٍ وحكومةٍ مستقلّةٍ عن الحكومة المركزية في بغداد، لكي تتكرّس، وهو ما سيباشر فيه مسؤولو الإقليم عبر الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التي أعلنَت المفوضية العليا للانتخابات في الإقليم أنها ستجري، بداية نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل.
وتبيَّنَ من تصريحات المسؤولين الأكراد أن قادة الإقليم تحسَّبوا لليوم التالي للاستفتاء، فلا شك
يبقى الموقف الأميركي الذي تجلى بتمني المسؤولين الأميركيين على قادة الإقليم تأجيل الاستفتاء وترديدهم هذه العبارة، في فترة ما قبل إجرائه، ليتكلل بموقف وزارة الخارجية الأميركية التي عبرت عن خيبة أملها بعد إجرائه. وإن لم يكن الأميركيون قد صرّحوا أن دولةً كردية ستكون في مصلحة واشنطن، لكونها ستحد من تنامي قوة إيران في المنطقة، وستكون إسفيناً في طريق تمدّدها، لقلنا إنهم، فعلاً، ليسوا مرتاحين لقرار إجراء الاستفتاء، وهم الذين وضعوا خطط التقسيم، الخطة تلوَ الأخرى.
قد لا يكون الاستفتاء على انفصال إقليم كردستان العراق انعكاساً للخطط الأميركية في هذا السياق، إلا أنه نتيجة آجلة لغزو البلاد واحتلالها. وحيث إن سياسات الحكومات العراقية المتتالية هي ما دفع نحو هذا الاستفتاء، فإن هذا الاستفتاء توطئة لتقسيم البلاد. وكما لم تعرف تلك الحكومات التعامل مع الأزمات التي تؤدي إلى أكثر من الانفصال، فإن استمرارها بمعالجة النتائج، بدلاً من اجتثاث المشكلات، هو دفع نحو مزيد من تجارب الانفصال التي ربما وجدت طريقها من الأدراج إلى الطاولات، هذه الأيام.