ولنا في خشب البحر.. فنون

30 مارس 2014
+ الخط -
لطالما أوحى له صوت موج البحر برسائل مفعمة بالفنّ، فغيرت نظرته إلى كلّ قطعة خشب ملقاة على رمل البحر، وزادت من تقديره لها ولما عاصرته من عوامل تعرية، بين الملح والشمس والرياح. وهي أكثرت من تجاعيدها وصلابتها، وأضفت على قشرتها الخارجية طابعاً خاصاً.

شهير ماجد، ومهنته "الرسمية" طبيب عظام مصري، ورث عشق خشب البحر من والده. وكبر الحبّ هذا بين زوايا ورشته داخل قبو "فيلا" عائلته في منطقة العجمي في الإسكندرية. هناك قضى طفولته بين أكوام من خشب البحر، ورأى والده يشكّلها ويصنع منها قطعاً فنّية نادرة، من خلال إمكانات نجّار هاوٍ، غير محترف، لأنّه في الأصل طبيب بشري. فقد ورث عن والده الطبّ وعشق خشب البحر معاً.

"دوماً شعرت بأنّ هناك رابطاً قوياً بين جراحة العظام وصناعة الأثاث من خشب البحر، وتأكّد شعوري ذلك بمجرّد أن دخلت غرفة العمليات، فشعرت بأنّني في ورشة والدي.."، يقول طبيب الخشب، ويزيد: "أدوات الجراحة لا تختلف كثيراً عن أدوات النجارة، فكلاهما دقيق وحاد.. كما أنّ مهارات الطبيب ودقته لا تختلف عن مهارات النجّار وحرصه على الوصول إلى صورة من الكمال.. كلاهما يعمل بصورة ميكانيكية وهندسية، تجعل من نسبة الخطأ في عمليهما صفراً %".

أيّ قطعة أثاث، بحسب جرّاح العظام، لا يجري تقييمها وفق نوعية الخشب المصنوع منها، على عكس ما هو دارج في مصر مثلاً. فالكثير من المصريين يتجهون مباشرة إلى دمياط التي تشتهر بتجارة الأثاث، على اعتبار أنّ الخشب هناك "لا يُعلى عليه"، بالتعبير المصري الدارج، وفيها أجود أنواع الخشب، وتشكيلة واسعة من الورش ومعارض الأثاث التي ترضي كل الأذواق.

لكن بالنسبة إلى شهير الأمر مختلف تماماً: "فعوامل التعرية ذاتها التي يتعرض لها خشب البحر تجعله يتفوّق على أيّ نوع خشب آخر". ويشرح أنّ قيمة هذا الخشب يستمدّها من أعوام طويلة تصل إلى عقود من الزمن، طاف خلالها على سطح المياه ولامس جزئيات أشعة الشمس التي أعادت تشكيله وبناءه من جديد، فضلا عمّا أحدثه به رمل البحر من تقشر واعوجاج جعلت من كل خشبة قطعة فريدة بذاتها: "ليس في خشب البحر قطعتان متشابهتان"، يقول.

يتحدّث شهير ليس فقط عن القيمة الفنية لخشب البحر، بل عن قيمته وجودته في الصناعة أيضا: "الخشبة التي عاشت 30 سنة في مركب صيد فقدت صلاحيتها، فارتمت على رمال البحر تحت أشعة الشمس الصفراء، لسنوات أخرى، اكتسبت صلابة وقوّة لا مثيل لهما"، فضلا عن مقاومته الطبيعية للحشرات: "فتعرّض الخشب للملح والشمس تكوّن عليه طبقة سامّة للحشرات"، يقول مدافعاً عن خشب البحر.

معظم قطع الأثاث التي يصنعها طبيب العظام تكون صالحة للاستعمال اليومي، والقليل فقط يصنعه ليكون مجرد قطعة جمالية، معتمداً في ذلك على أبسط وأسهل التصاميم. فجمال القطع التي يصنعها يعتمد في المقام الأول على "جمال كل قطعة خشب مشاركة في التصميم، بألوانها واعوجاجها التي تكون في النهاية مع بساطة التصميم، قطعة فنية فريدة".

الحسّ الفني لدى جراح العظام لا يبدأ من مرحلة تحويل أخشاب البحر إلى قطع أثاث فنية، بل يبدأ من مرحلة تجميع الأخشاب، التي تعدّ "أصعب مرحلة"، على حدّ قوله، ويتابع: "مرحلة تجميع الأخشاب مؤلمة فعلا وصعبة. وفي الغالب لا أعتمد على صيادين أو حرفيين يجمعون لي الأخشاب من على الشواطئ، بل أنزل بنفسي لجمعها وفرزها".

بعد وفاه والده، كان شهير يعمل بمفرده في ورشة فيلا العجمي، التي حملت اسم "جازوارين"، لكن منذ ستة شهر تعرّف إلى أحمد جلال، مصمّم أزياء في كندا، وصادقه ليبدآ في تصنيع قطع الأثاث، بعدما أضفى أحمد لمسته الفنّية الجمالية على القطع والتصميمات.

"أنا من المؤمنين بأنّ العقول التي تفكر معاً تستطيع أن تنتج شيئاً مختلفاً، وهذا ما استفدته من علاقتي بجلال"، يقول شهير، متحدّثاً عن تفاصيل أخرى تدور في زوايا ورشته: "كان يمكن أن أستعين بنجّار أو صبي نجّار، أو حتّى أيّ من العمال لمساعدتي في عمل الورشة، لكني أتعامل مع خشب غير مستقيم.. مختلف في زواياه وأطواله وأشكاله وملمسه، وهذا يحتاج إلى خطوات وطريقة مختلفة في الشغل".

قد يدخل شهير بعض القطع الخشبية، أو المواد المستخدمة في صناعة الأثاث، في القطع المصنوعة من خشب البحر، بنسبة ضئيلة جدا قد لا تتجاوز الـ5%، وأصبح يضيف أيضا على قطعه المصنوعة من خشب البحر، أخشاب فروع وجذوع الأشجار الطبيعية.

نظّم شهير 4 معارض كان آخرها في نوفمبر/ تشرين الثاني 2013، بقرية "تونس" بالفيّوم، المشهورة بصناعة الخزف والفخّار، ومن خلال هذه المعارض بدأ الناس يتعرّفون إلى صناعة شهير ويشترون منتجاته: "الإقبال كبير نسبياً، بالطبع قد لا تستهوي هذه الحرفة كلّ الناس لكن أصبح لي زبائني".

هكذا، شيئاً فشيئاً بات الهاوي محترفاً، ويمكن القول إنّه جرّاح بشر قبل الظهر، وجرّاح خشب بعده. وهو الآن، ربما، يستمع إلى رسائل الموج التي تحمل له إيحاءات بتصميمات جديدة.

دلالات
المساهمون