.. ولمَ نلوم إيران؟

10 أكتوبر 2014
+ الخط -

لومُ إيران على سياساتها المدمرة في المشرق العربي أصبح نمطاً شائعاً، في التصريحات العربية الرسمية والكتابات الصحافية، وهو لا شك لومٌ محق، وانتقاد مصيب، لو أنهما انصبا على السلوك الإيراني، مع افتراض عدم وجود سياق عربي مترهل وفاضح. ولكن، إن أُخذ هذا السياق في الاعتبار، حينها يصبح ذلك اللوم وتلك الشكوى نوعاً من التراجيديا الهزلية، أو حتى، قل، شكلاً من الصفاقة وتبلد الحس. ومناسبة هذا التقويم الحديث المتصاعد عن "الخطر الإيراني"، والذي يصفه بعضهم بـ"الشيعي"، وفريق ثالث بـ"الفارسي"، خصوصا بعد سيطرة الحوثيين، مخلب إيران في اليمن، على العاصمة صنعاء قبل أسابيع، لتكون بذلك العاصمة العربية الرابعة في قبضتها، بعد بيروت وبغداد ودمشق.

المشكلة، هنا، أن تلك العواصم الأربع ما كان لها أن تسقط في قبضة إيران، لولا مواقف دول عربية، أقل ما توصف به أنها متخاذلة، أو حتى قل متواطئة، وهذا ما ينطبق على السقوط المريع لصنعاء. ففي سبيل إبقاء اليمن ضعيفاً ممزقاً، ومن أجل وأد نتائج ثورته الشعبية، واستكمالاً لمخطط سحق أي تواجد قوي للإخوان المسلمين في الفضاء العربي، تواطأت دول خليجية، معادية للثورات العربية من أساسها، وعبر تحالف مع قوى يمنية داخلية، في تسليم صنعاء بشكل مهين للحوثيين. وهكذا كان أن تعززت شوكة إيران، وتهتك، أكثر فأكثر، الواقع العربي المهترئ أصلا.

نعم، هكذا سقطت بغداد من قبل فريسة سهلة لإيران، بعد أن أيّد عرب كثيرون العدوان الأميركي على العراق، وساهموا فيه، مهدمين بذلك حائط الصد العربي الأقوى في وجه مطامع طهران. وهكذا، أيضا، ساهموا في إحكام إيران سيطرتها على دمشق، بعد أن خضعوا للقرار الأميركي المتحكم بسقف التسليح المسموح به للثوار، في حين لا تخضع إيران لأي سقوفٍ في دعمها النظام السوري. وهم، أي أولئك العرب، تركوا من قبل لبنان يغرق في حرب أهلية مدمرة، استثمر عرب كثيرون فيها، كما فعلت إيران قطعاً، غير أن أيا منهم لم ينجح في مد نفوذ في ذلك البلد، كما فعلت إيران فيه. 

لطالما راهن ذلك الرهط من العرب على القوة الأميركية، لكبح جماح إيران وطموحاتها في المنطقة، ما حال دون بناء مقاربة عربية جَمعية لموازاة التمدد الإيراني وتعززه. ولكن أميركا ليست مؤسسة إغاثية، ولا حتى مبرة خيرية، وهي، قطعاً، لا يُؤمن جانبها. أميركا بلد براغماتي، تحكمه مصالح لا مبادئ، ومن الواضح جدا أن كثيرين من حلفائها العرب لم يستوعبوا دروس فضيحة صفقة "إيران كاونترا"، عامي 1985 و1986، خلال رئاسة رونالد ريغان، والتي بموجبها زودت الولايات المتحدة إيران خلال بعض سنوات حربها مع العراق، بصواريخ متقدمة، عبر إسرائيل، في مقابل المساعدة الإيرانية بالإفراج عن رهائن أميركيين في لبنان. حينها، تلقت إيران شحنات صواريخ "الشيطان الأكبر"، عبر إسرائيل، "الكيان اللقيط"، من دون أن يرفَّ لها جفن. أيضا، قامت إسرائيل بدور الوسيط في صفقة إدارة ريغان، من دون أدنى اعتبار، من الدولتين، لمزاعم العداوة الإيديولوجية والاستراتيجية مع إيران.

سيتكرر المشهد نفسه مع الغزو الأميركي للعراق عام 2003. فغرق إدارة الرئيس السابق، جورج بوش، في أوحال العراق، دفع بها نحو أحضان إيران، لإعانتها على اجتراح مخرج من ورطتها تلك، عبر حلفائها من الشيعة في العراق. وكان من اللافت أن يعترف الأميركيون أن الصفقة العسيرة التي جاءت برئيس الوزراء العراقي السابق، نوري المالكي، عام 2006، بعد تعثر سياسي، ما كان لها أن تتم، لولا وساطة مباشرة من قائد "فيلق القدس" في الحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني، والذي تقول مصادر أميركية إنه مكث أشهرا في المنطقة الخضراء في بغداد، من دون معرفة من قوات الاحتلال الأميركي حينها. وبغض النظر، صدقنا رواية عدم معرفة الأميركيين بوجود سليماني في بغداد حينئذ، وهو المطلوب لهم، من عدمها، فإن هذا يظهر مدى النفوذ الذي حققه الإيرانيون في العراق، تحت أنوف الأميركيين.

ثمّ جاء الاتفاق الانتقالي "المفاجئ" و"الصادم"، لبعض حلفاء أميركا في المنطقة، وخصوصا إسرائيل والسعودية، والذي توصلت إليه إيران مع القوى العالمية 5+1 (الولايات المتحدة، روسيا، بريطانيا، فرنسا، الصين، بالإضافة إلى ألمانيا) في جنيف في الرابع والعشرين من نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، ووضع قيوداً على برنامجها النووي في مقابل تخفيف طفيف للحصار المفروض عليها. لنعلم، لاحقاً، أن ذلك الاتفاق لم يكن إلا تتويجا للقاءات أميركية-إيرانية سرية في عُمان، بدأت منذ مارس/آذار 2013، أي منذ رئاسة "المتشدد"، أحمدي نجاد، لا الرئيس "المعتدل" حسن روحاني، ما مكّن من سرعة التوصل إلى اتفاق مرحلي لـ 6 أشهر في جنيف. وهذا إن عنى شيئا، فإنما يعني أن قرار التفاوض مع أميركا إنما هو قرار نظام، لا قرار رئيس.

الأخطر من ذلك كله، أن ثمة حديثاً متصاعداً عن أن ما يجري في المحادثات الأميركية-الإيرانية تحديداً، إنما هي مفاوضات على صفقة شاملة، تتضمن ملفات إقليمية، واعترافاً أميركياً بدور إيراني معتبر في منطقة الشرق الأوسط ككل، خصوصاً في ظل توجه إدارة الرئيس، باراك أوباما، إلى التخفف من أعباء الالتزامات الأميركية في المنطقة. وها نحن، الآن، نرى "عدوي" الأمس "حلفاء" اليوم في الحرب على "تنظيم الدولة الإسلامية" (داعش) في العراق وسورية، بل إن خطاب إيران يتحدث، وبكل جرأة، عن "الحرب على الإرهاب"، وهي من كانت، إلى الأمس القريب، فقط، واحداً من أضلاع ثلاثة لـ"محور الشر" الأميركي!

باختصار، تتصرف إيران بمنطق الدولة، وتعبر عن مصالحها، ونحن، اتفقنا مع سياساتها أم لا، مضطرون إلى الاعتراف بفعاليتها. سياسات إيران لا تعكس أبداً مفهوم "الأمة المسلمة المستضعفة"، في مواجهة "الاستكبار الغربي"، مهما ادعت عكس ذلك. أيضا، صحيح أن إيران دولة مذهب، ولكن سياساتها براغماتية وذرائعية في الآن نفسه، وهي أبعد ما تكون عن المبدئية والأخلاقية. إيران لا يهمها إلا مصلحة إيران، وعندما تخاصم، وعندما تهادن، تفعل ذلك من أجل إيران، وإيران فحسب. ألا يُذَكِّرُ الساسة الإيرانيون، إلى اليوم، الولايات المتحدة، أن بلدهم هي من أعانتهم في إسقاط نظام طالبان في أفغانستان، ونظام الرئيس الراحل، صدام حسين، في العراق؟!

هذه هي إيران، لكن المشكلة تكمن في أنظمةٍ عربيةٍ تتبنى سياسات تدميرية، تعزز من الدور الإيراني في المنطقة، والذي يدعون عداءه، دع عنك المزيد من الارتهان للولايات المتحدة وإسرائيل. مشكلتنا في أنظمة عربية لا تفقه معنى الدولة، ولا ترى فارقاً ما بين مصالح نظام حكم ومصالح دولة. أيضاً، مشكلتنا في مثقفين، لا يكفون عن تعيير إيران بأن سياساتها لا توحي أبدا أنها دولة "رسالة"، وكأن إيران تلقي لذلك بالا!

يا سادة، العيب فينا، لا في إيران فحسب. فاشتموا إيران كما تحبون، واتهموها بالطائفية، وهي كذلك، لكنها، في المحصلة، تفعل ما تراه في مصلحتها الاستراتيجية. أما نحن فلا نكف عن استجداء الدعم الغربي والصهيوني في مواجهتها، وفوق هذا وذاك، فإن سياسات كثيرة لبعض أنظمتنا ما هي إلا وصفات تدمير استراتيجي ذاتي، باسم "الإسلام السني"، وهي تقوضه من أساساته.