وللفلسطينيين ربيعهم
طوال سنوات الربيع العربي، وخروج الناس إلى الشوارع، مطالبين بحرياتهم، وهم يستقبلون الموت بصدورهم العارية و"سلميتهم"، كانت الأبصار تشخص إلى الفلسطينيين، و"صمتهم" المريب، وإحجامهم عن المشاركة في "زفة" الربيع، وتنوعت التفسيرات والاجتهادات في فهم هذا الموقف المريب الغريب، وذهب محللون وكتاب ومراقبون مذاهب شتى في استخلاصاتهم، وهم يعلمون أن الفلسطينيين "أسياد" الفعل الجماهيري الرافض، فهم الذين أدخلوا كلمة "انتفاضة" إلى قواميس لغات العالم، وإنْ لم تكن ثورات الربيع انتفاضاً، فماذا كانت إذاً؟ هل من المعقول أن ينتفض الفلسطينيون، فيما الناس نائمون، حتى إذا استيقظوا ناموا هم؟ واستمر الحال طوال ثورات الربيع، وما أعقبها من ثورات مضادة، نجحت مرحلياً في سرقة أحلام الشعوب العربية، وإجهاض ثوراتها في غير بلد، وفي هذا الوقت بالذات، جاء "ربيع فلسطين"، ليعيد الحياة إلى ربيع العرب، وبناء "الثقة" في قدرة الجماهير على إحداث التغيير!
أهمية ربيع فلسطين، هنا، أنه يثبت أن الشعوب العربية لم تمت بعد، وإن نعاها كثيرون من أصحاب الرؤية السوداء، خصوصاً بعد الانتكاسة التي أصيبت بها ثورات الربيع العربي، التي تكالبت عليها كل قوى الثورة المضادة، عربياً وأعجمياً، واستنفرت إسرائيل كل قواها في العالم، خصوصاً اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة، لإذكاء نار الثورة المضادة وإجهاض كل الثورات وبكل السبل، حتى ولو وصلت إلى حد سحق حقوق الإنسان، وركل القانون الدولي الإنساني!
تمكنت انتفاضة القدس، على بساطة "عتادها" وقلة إمكانات ثوارها، من وقف الشهوة الصهيونية المفتوحة على مصراعيها لالتهام الأقصى، والسيطرة عليه، واستباحته، ولو مؤقتاً. ثوار القدس فتية مسلحون بالحجارة والألعاب النارية، ورجال حولوا سياراتهم إلى أداة مقاومة فعالة، تواجه آلة القتل الصهيونية المتقدمة، وفتيات صغيرات مرابطات، ونسوة اعتمدن الأحذية أداة مقاومة فعالة، هؤلاء تمكنوا من بعث المخاوف الكامنة في نفوس اليهود من تحرك شعبي إسلامي دولي، (لم يأت بالطبع، لكنه بث الهلع في نفوس مستوطني فلسطين)، وأحيوا في الوجدان الصهيوني فوبيا "الحرب الدينية" التي يمكن أن تبتلع كيان العدو من مليار ونصف المليار مسلم. طبعاً، كل هذه المخاوف ليست واقعية، لكنها مستقرة في المخيال الصهيوني، الذي يفكر بعقلية الحرامي، ولا يمكن أن يطمئن لما سرق، لأنه يعرف أن أصحاب الحق لم يرفعوا له، بعد، الراية البيضاء، ولن يفعلوا!
أبرز مظاهر التراجع الصهيوني عن محاولات إعادة احتلال "الأقصى" والقدس عموماً، ومحاولة تقسيم الحرم، مكانياً وزمانياً، كما فعلوا بالمسجد الإبراهيمي في الخليل، ذلك الجدل الساخن الذي دار في كيان العدو، على غير صعيد، وصب جام غضبه على كل من حاول اقتحام الأقصى من اليهود، سواء للسياحة، أو لاستعراض القوة، أو لأسباب دينية، أو انتخابية، وتجلّى هذا الغضب في ما نشرته صحافة العدو بهذا الشأن، ووصول هذه القضية إلى أعلى مرجعية "دينية" في إسرائيل: الحاخامية الرئيسة، فبعد أن وصف شقيقه، الحاخام الرئيس لإسرائيل، إسحق يوسف، زعماءهم بأنهم "حاخامون من الصف الرابع"، فإن الحاخام دافيد يوسف يهزأ من اليهود الذين يحجّون إلى الحرم، ويسمّيهم "أقلية صغيرة غريبة الأطوار ومتطرفة". الحاخام يوسف، عضو مجلس حكماء التوراة في "شاس" ورفيق رئيس الحزب، آرييه درعي، توجه، أخيراً، برسالة إلى رئيس وزراء إسرائيل، بنيامين نتنياهو، ودعاه إلى أن يحظر بشكل جارف دخول اليهود إلى الموقع المقدس، بسبب من "قدسيته!" وفي هذا الصدد، يقول يوسف هذا، موجهاً حديثه لنتنياهو: "لا تدع أقلية صغيرة، غريبة الأطوار ومتطرفة تضلّلك بكل أنواع الحجج "المسيحانية" التي تستخدم الفقه عبثاً، ونوازعها الشريرة تبحث لها عن "أذون" وهمية، وتستند إلى رأي مرفوض، سبق أن رفضه كل المفتين رفضاً باتاً"، وقال إنه يستند إلى فتوى أبيه، الحاخام عوفاديا يوسف، وإن هذا الرأي يشارك فيه، أيضاً، كل أعضاء مجلس حكماء التوراة لشاس، وكذا مجلس الحاخامية الرئيسة.
وعلى حد قول يوسف، فإن اليهود الذين "يحجون" إلى الحرم "يلحقون ضرراً هائلاً بالشعب الذي يجلس في صهيون، ويستفزّون أمم العالم، ويجلبون الكراهية تجاهنا، وأفعالهم تستخدم ذريعة في أيدي كارهي إسرائيل، لمنح الحراب في أيديهم، لقتلنا والتمثيل بنا والقيام بعمليات ضدنا، وتحريض كل أمم العالم علينا، ولا يحتمل أن تكون موافقة صامتة على أن تقود حفنة صغيرة من غريبي الأطوار عموم الجمهور وراء آرائهم المسيحانية التي لا تحمد عقباها". ويستدرك يوسف أخيراً، فيقول، وهو كاذب: "حظر زيارة اليهود الحرم ينبع من قدسية المكان، وليس فيه تنازل عن السيادة الإسرائيلية في الحرم"، ونقول إنه كاذب، لأن الجدال "الفقهي" حول زيارة اليهود الحرم لم تنطفئ ناره أبداً، وكان من الحاخامات من أباح هذا العمل لليهود، لكن المسألة متعلقة بردود الفعل التي قام بها أهل القدس، ومن ناصرهم من أهل فلسطين، فضلاً عن الجهد الأردني الرسمي، والخشية من تطور انتفاضة القدس إلى انتفاضة فلسطينية عارمة.
الجدل في إسرائيل حول كبح جماح انتفاضة الفلسطينيين، لم يقتصر على الوسط الديني، فقد انطلق، بشكل مسعور، في الأوساط السياسية والأمنية، وألقى بظلال سوداء كثيفة على الأجواء في إسرائيل، وكانت له تداعيات سياسية عميقة، فقد أقبل بعضهم على بعض يتلاومون، الشرطة تلقي اللوم على النواب اليهود الذين زاروا الأقصى، واليمينيون المتشددون عابوا على من يدعو إلى تركه للمسلمين بأنهم متخاذلون، والكتاب المتطرفون تساءلوا عن مغزى "توحيد عاصمة إسرائيل الأبدية" بسخرية مريرة، وأحدهم لا يأمن على نفسه، وهو ينتقل من شطر إلى آخر في المدينة، انطلق الجدل ولم يتوقف، بل ازداد مرارة، حينما ترددت أصداء الانتفاضة داخل أراضي الـ 48 أو ما اصطلح على تسميته إسرائيلياً بالخط الأخضر، وقتل الشاب في كفر كنا، والإضراب الشامل الذي أعقبه، بل أعاد هذا الجدل طرح قضايا جذرية كثيرة متعلقة بمستقبل إسرائيل، وقدرتها على الحياة وسط هذا البحر العربي الإسلامي!
انتفاضة القدس، أو ربيع فلسطين، على تواضعها، أعادت طرح أسئلة وجودية مؤجلة في إسرائيل، كما طرحت انتفاضات الربيع أسئلة وجودية عن مستقبل الدكتاتوريات العربية، وهنا مفارقة بحجم السخرية من قدرة ربيع العرب على "تغيير" واقع تمأسس منذ عشرات السنين، لكن الهواجس التي يثيرها "رئيس الدولة"، روبي ريفلين، في إسرائيل، في مقالة نشرها الإثنين في صحيفة يديعوت أحرونوت، قد تقربنا مما يدور في الوجدان الإسرائيلي القلق أبداً من المستقبل، إذ يتساءل: الآن، بالذات، علينا أن نسأل أنفسنا، بصدق ومن دون مواربة، هل هذا هو المستقبل الذي نحلم به لأبنائنا؟