ولاء الفلسطينية بعينيّ كندية: وثائقيّ تقليديّ

14 يناير 2019
ولاء الفلسطينية بعدسة الكندية كريستي غارلاند (فيسبوك)
+ الخط -
حول فتاة فلسطينية مُراهقة، تشعّ حيوية وتمرّدًا وانطلاقًا وجرأة، تمحور الوثائقي الجديد "ماذا تريد ولاء"، للكندية كريستي غارلاند، الذي صوّرته في مخيم بلاطة في نابلس، خلال 5 أعوام.

رغم بنائه التقليدي، وخطّه السردي الرئيسي الذي يمكن التكهّن به، والتنبؤ بما سينتهي إليه في النهاية، اختارت كريستي غارلاند الأنسب باعتمادها على هذا كلّه، مع خروجها على هذا الخطّ مرّتين: عند استعانتها بمادة وثائقية من الأرشيف للمراهقة ولاء في سنّ صغيرة، للحديث عن والدتها المُغيَّبة في السجون الإسرائيلية؛ وعند الإفراج عن الوالدة ومئات الأسرى.

ركّزت غارلاند على الشابة ولاء، بشخصيتها وحياتها. لهذا وجاهته ومصداقيته، خاصة أنّ ولاء، المراهقة والشابّة، ذات شخصية جذّابة ومتفرّدة ولافتة للانتباه. خلال السياق السرديّ، تأرجح الفيلم بين الوثائقيّ وشبه الروائي. غالبية شخصياته تُدرك أن هناك كاميرا ترصدها، لكن الغلبة للعفوية والتلقائية في التصرّف. أحيانًا قليلة، يسود شعورٌ بأن الشخصيات تُمَثِّل فعليًا.
سريعًا، تعبر كريستي غارلاند شخصية الأم لطيفة أبو دراع، التي أمضت 8 أعوام في السجون الإسرائيلية لمُساعدتها أحد الفلسطينيين على التخطيط لتنفيذ عملية انتحارية، لم تتحقّق. بعد لقطات أرشيفية عديدة لولاء وأفراد عائلتها يوم عيد الأم (2009)، وإبراز ما كابدوه من حرمان، وتمضية طفولتهم في بيوت الأهل والأقرباء، تظهر لقطات أرشيفية أخرى لمجموعة من الأسرى المفرج عنهم. يُكتب على الشاشة أن الإفراج عن لطيفة حدث ضمن صفقة تاريخية (أكتوبر/تشرين الأول 2011) بين "حماس" والحكومة الإسرائيلية، تعلّقت بـ1027 معتقلاً في السجون الإسرائيلية لأسباب مختلفة، مقابل جندي إسرائيلي واحد، يتبيّن لاحقًا، وبشكلٍ موارب، أنه جلعاد شاليط.

بعد دقائق قليلة، يكشف الفيلم أنه لن يتناول شخصية الأم لطيفة ونضالها ومعاناتها في السجن، ولن يروي قصّة العائلة التي تخلّى الأب عنها مغادرًا إلى الأردن من دون عودة، حيث أنشأ عائلة جديدة. الأمر الأساسيّ متعلّق بالمُراهقة المُنطلقة والجريئة والضاحكة والمُدخِّنة، ذات الشخصية القوية والعينين اللامعتين بحبّ الحياة والإقبال عليها، وبالتحدّي والعناد. تدريجيًا، تتوضح معالم ولاء عبر علاقتها مع شقيقها وشقيقتها في حياتهم اليومية؛ ومع خالتها ووالدتها، التي تعتبرها صديقة لها، وذلك عبر أحاديث يومية، تذكر ولاء فيها أنها طامحة إلى العمل في سلك الشرطة، فالراتب مُنتظم، وحمل السلاح لحماية الذات، والمكانة مُستمدة من الوظيفة التي تمنحها سلطةً (تركّز ولاء مرارًا على كلمتي سلطة وقوّة).

لوهلة، يُظنّ أن حديثًا كهذا عابر. لكن ولاء تتحدّى شقيقها وشقيقتها، قبل أن تصطحبها والدتها إلى مكتب شرطيّة، تخبرها أن عليها الانتظار لبلوغ 18 عامًا، والحصول على "هوية". لاحقًا، تحصل ولاء عليها، وتنضمّ سريعًا إلى أحد مراكز التدريب مع فتيات قليلات وغلبة فتيان، يخضعون جميعهم لتدريبات رياضية مختلفة. التدريب يُساهم في إبراز التمرّد لدى ولاء، ويرصد تحوّلاتها أيضًا. ففي البداية، تحاول بسط سيطرتها على من حولها، وتهرّب السجائر وتدخّنها، وتدّعي مرضًا، وتتذرّع بالإغماء أو الدورة الشهرية للتهرّب من التدريبات، وتمارس كافة أنواع العصيان. كما أنها تثير نفور زميلاتها القليلات، اللواتي يشتكين منها ومن سلوكها معهن، فهنّ يتعرّضن للتوبيخ والإهانة والعقاب بسببها، ويطالبن بفصلهنّ عنها. لذا، تتعرّض ولاء للتوبيخ والعقاب أكثر من مرة من قادتها، إلى درجة تهديدها بالفصل لسلوكها السيئ. ثم يحدث الانتقال إلى النقيض، بعد استغراق طويل في تصوير ذلك الجزء في المركز.

ينضبط سلوك ولاء، وتصير رمزًا للطاعة والصبر والاجتهاد في التدريبات، وتنال ثناءً وتقديرًا. بعد 6 أشهر، تتخرّج ولاء، وتعود إلى منزل الأهل. ورغم شكوى الأم وانتقادها سلوك السلطة، لعدم حصولها على مكافآت الأسيرة، لا تقف ولاء إلى جانبها. فيما بعد، تذهب إلى أحد أقسام الشرطة، لتبدأ عملها، ثم تنخرط سريعًا في العمل كإدارية في مكتب، كما تمنّت سابقًا.

في تلك اللحظة، يُعتَقَل محمد، شقيقها الصغير، بتهمة إلقاء الحجارة والتسلّل إلى إسرائيل والعمل من دون تصريح. تُحدَّد جلسة لمحاكمته. بعدها، وبسبب التشنّج الحاصل بين جندي إسرائيلي ومحمد، تعتدي ولاء على الجندي بالضرب فتُعتقل. مع اعتقالها وشقيقها، يزداد الفيلم توترًا وتشويقًا وألمًا، لكن كريستي غارلاند تُنهي القصة سريعًا بخروج ولاء من السجن بعد 14 يومًا، بينها 5 أيام في الحبس الانفرادي. تقول ولاء لوالدتها: "لم أستطع تحمّل السجن، خاصة في تلك الزنازين، فكيف تحمّلت أنتِ تلك الأعوام كلّها وبقيتِ على قيد الحياة؟". ثم تعود ولاء إلى مكتبها، وتُحقّق في إحدى القضايا.

إذًا، هذا "ما تريده ولاء"، الذي بدأ كمزحةٍ أو أمنية أو حلم عابر، قبل تحقيقه، مع أنها كادت تتخلّى عنه مع أول صعوبة تواجهها. لكن، وبصرف النظر عن قيمة الحلم وماهيته، تتمكّن من تحقيقه بصلابة وشراسة وعناد، ومع تحقيقه يحدث تحوّل في شخصيتها يصعب توقّعه. لذا، كانت كريستي غارلاند محقة في اختيار شخصية ولاء لتسليط الضوء عليها، كنموذج لفتاة عربية، فلسطينية تحديدًا، ليست استشهادية أو أسيرة أو مُعتقلة كي تستحق أن يُصنع عنها فيلم.
المساهمون