وكأنك يا بو زيد ما غزيت

13 يونيو 2018
+ الخط -
سألني وهو يحاورني: هل تتذكّر "تغريبة بني هلال"؟
قلت: كنت تعرفت إليها قبل عقود، لكن الزمن فعل فعله، فلم أعد أتذكّر منها سوى أشتات.
تابع: سأختصر لك الحكاية، فقد قيل إن بني هلال الذين استوطنوا جزيرة العرب واجهوا محنة جوع وقحط، لم يحيوا مثلها من قبل. افتقدوا فيها الزرع والضرع وعزّ عليهم الماء، وقد توافقوا على البحث عن أرضٍ أخرى، تتوفر فيها مقومات الحياة، لهم ولحيواناتهم، كي ينزحوا إليها، وكلفوا مجموعةً من بينهم، يقودها فارسٌ مغوارٌ، هو أبو زيد، لهذه المهمة الصعبة. وكان أن انطلق أبو زيد وجماعته، متجها إلى مصر ومن بعدها إلى المغرب، ومنها إلى تونس، حيث استقر فيها، بعدما لاحظ توفر كل ما يديم حياة هانئة فيها له ولقومه، إذ طاب هواؤها وعذب ماؤها، وانتشر الكلأ فيها، كما راقت له أخلاق أهلها وطيبتهم وقبولهم بالغريب. وعزم على أن يعلم قومه بهذه الحال، لكي ينزحوا من أرضهم التي لم تعد توفر لهم الحياة.
وصادف أن أمير تونس كان قد رأى في منامه أن قوما غرباء سينزحون إلى ديرته ليقيموا فيها، ويستحوذوا على ما فيها من زرع وضرع، فهاله ذلك، وساورته موجة حذر وشكوك من الغرباء الذين يفدون. وهذا ما حدث مع أبي زيد ومجموعته، إذ ألقى بهم الأمير في السجن، عندما طرق سمعه خبر قدومهم. وإذ كان أبو زيد على قدر من الفطنة والذكاء، فقد احتال على سجانيه، وعقد علاقة طيبة مع ابنة الأمير التي رقّ قلبها له، وسعت إلى إخراجه من السجن، واقترحت عليه أن يعلن أنه مجرّد عبد، وليس فارسا، كي يطلق أبوها سراحه، إذ ليس من شيم الملوك أسر العبيد. وهكذا خرج أبو زيد من السجن، لكن الأمير وضعه تحت رقابة وزيره 
الذي فكّر أن يختبره، ليكتشف صدق ادّعائه، فأقام عرضا مثيرا للفروسية، وأحضر أبا زيد، وبدأ بمراقبته، فاكتشف حماسه للعرض. وتحقق أنه فارس، وليس عبدا، فقرّر الإيقاع به، إلا أن أبا زيد احتال، هذه المرة، على الوزير، وعاد إلى موطن قومه الذين حزموا أمرهم، وزحفوا إلى تونس، واستقرّوا فيها بعد معارك طاحنة مع أهلها، قادهم فيها أبو زيد نفسه. وإذ ارتاح أبو زيد قليلا، أرسل بعدها إلى زوجته، كي تأتي إلى ديرتهم الجديدة، لكنها رفضت، متمسكةً بالبقاء في موطنها في الجزيرة، و"كأنك يا بو زيد ما غزيت".
سألته: وما الدلالة التي تريدها من هذه الحكاية؟
أجاب: أنت تعلم أننا طوال السنوات الخمس عشرة التي أعقبت الغزو الأميركي لم تنعم بلادنا براحة البال ولا بالأمان، ولا بالهناءة في العيش، ولا بتوفر مقومات الحياة الكريمة، ولا بالديمقراطية التي وعدونا بها. وترانا، بعد تلك السنوات العجاف، نواجه وضعا مأساويا أشد قسوةً وضراوةً، لكننا نسمع من حكامنا ما يغيظ صديقا ويسرّ عدوا، إذ نراهم يسخرون منا ومن مطالبنا، ويضحكون على ذقوننا، ونحن لا نملك لهم ردّا.
ألم يصل إليك خبر وزير الكهرباء الذي قال إن وزارته لا تستطيع أن توفر مزيدا من الطاقة لمواطنيه، وأنت تعرف أن ما صرف على مشاريع الكهرباء في السنوات الخمس عشرة الشريرة يتجاوز أربعين مليارا من الدولارات، وبما يعادل عملية توفير كهرباء لبلدانٍ عديدة في المنطقة، وليس للعراق وحده؟ ألم تسمع دعوة وزير الماء مواطنيه أن يضعوا في منازلهم خزاناتٍ إضافيةً لخزن الماء، وأن يقتصدوا في استهلاكه، لأن الرافديْن قد نالهما الجفاف، ولم يعودا يمنحان الحياة لأرض السواد؟ وهل تيقنت اليوم بأن بغداد ترقد على غابةٍ من الأسلحة، حتى في المناطق المأهولة بالسكان، وأن أحدا لا يستطيع أن يفك أسر المدينة من طغيان المليشيات السوداء، إلى درجة أن رئيس الوزراء نفسه يعترف بوجود أكثر من مئة مليشيا، لها سجونها ومحاكمها وأسلحتها؟ ثم هل طرق سمعك ما هو مضحك، إذ إننا صحونا اليوم على خبر طلب موظف عراقي كبير، بدرجة نائب رئيس جمهورية، جنسية بلد آخر، ألا يمثل ذلك استهانة بوطنه الأول، وجنسيته الأولى؟
الأهم من هذا أننا أجرينا انتخاباتٍ، قيل لنا إنها سوف تحقق لنا نقلة سريعة إلى دولة قانون وحقوق، لكننا اكتشفنا أننا ما نزال في المربع الأول، و"كأنك يا بو زيد ما غزيت".
583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"