24 يوليو 2024
وقائع رئاسية سودانية
في بداية حياتي المهنية، في صحيفة الصحافة السودانية، نهاية السبعينيات، طُلب مني تفريغ شريط مسجل لمقابلة أجرتها الزميلة بخيتة أمين مع الرئيس جعفر نميري. ذُهلت حينما استمعت للتسجيل. فالرئيس كان، كما يقال، "عارياً" بدون تجميل وإصلاحات، ومذهلاً بسذاجته وفي ردوده الشديدة الغرابة. ومثالاً، كانت أزمة مواصلات طاحنة تلف العاصمة الخرطوم. سألته: الناس تشكو من أزمة المواصلات؟ فأجاب: أنا يومياً أقطع الطريق بين مكتبي في القصر الجمهوري إلى قاعة الصداقة، وهما على خط واحد على شارع النيل، وعادة لا ينتظر أحد مواصلات عامة على الطريق وقتها. ولا أرى أي شخص على الطريق. فترد الصحفية في استغراب: لكن، يا ريس، منذ متى الناس تنتظر المواصلات على شارع النيل. تسأله: هناك أزمة الخبز الذي يكاد ينعدم؟ فيرد نميري: هناك سوء استخدام وإسراف، فمثلاً كل يوم جمعة عندما نتغدّى في منزل الأسرة في ود نوباوي (أحد احياء أم درمان العريقة) نرمي الخبز بالجوالات في الزبالة.
تذكّرت ذلك الحديث الذي لا شك أن رصيد نميري هائل من مثله في غرابته، ولا يزال السودانيون يتذكرون كثيراً منها. وللرئيس الحالي، عمر البشير، رصيد معتبر أيضاً، خصوصاً حينما تأخذه "حالة الحماسة" إلى حالة من التجلي المماثلة للرئيس نميري. أهمها تقريباً ما حفظته عليه ملفات المحكمة الجنائية الدولية، حينما قال في خطبة مباشرة "قتلنا فقط 10 آلاف شخص في دارفور". وذلك في معرض نفيه عدد الأمم المتحدة للضحايا في الإقليم (200 ألف).
يتجاوز البشير كثيراً في سباب معارضيه والقوى الخارجية، وله رصيد من ذلك كثير جداً، وغير مسبوق ربما لأي رئيس دولة. ومن الغرائب، أنه في عام 1990، سألته الزميلة راغدة درغام في مقابلة صحفية عن استمرار حظر التجوال من السابعة مساء في الخرطوم، لأشهر بعد الانقلاب الذي جاء به إلى الحكم عام 1989، فأجاب: نحن لم نفرض حظر التجوال، بل الشعب هو من طلبه. دهشت الزميلة من إجابته: وكيف لشعبٍ أن يطلب فرض حظر التجوال عليه، فقال البشير: إذا لم تصدقي حديثي، زوري الخرطوم واسألي النساء، كيف هن مرتاحات من فرض حظر التجوال.
أما أغرب ردود الرئيس البشير، فهو لازمة تبدو مفضلة لديه، يعيدها، عندما يُواجه بأسئلة عن الفساد في السودان، وخصوصاً لدى المتنفذين في الحكم. يقول: هذه اتهامات لا سند لها. من لديه أي دليل على الفساد فليقدمه. ومعلوم أن هناك شخصية مهمة جداً في منظومة الحكم في السودان، موروثة عن النظام الاستعماري البريطاني، وهو رئيس ديوان المراجع العام. يعينه الرئيس عمر البشير ضمن صلاحياته ولا أحد يسائله في الحكومة سواه. ويقوم المراجع برصد دقيق للفساد في السودان سنوياً، ويرفع تقريره لرئيسي الجمهورية والبرلمان. وفي كل مرة، يصدر فيها، يثير التقرير عواصف عاتية من السخرية لدى السودانيين، لما يحتويه من غرائب الفساد. وأيضاً، لأنه الجهة الوحيدة في السودان التي تحطم الأرقام القياسية سنوياً بأرقام فلكية عن الفساد والأموال التي لا تُعرف أوجه صرفها، وغيرها من أرقام تزكم الأنوف، بما تدل عليه من أشكال متنوعة من فساد صريح، يحمل خاتم جهة رسمية لا يشكك في جدارتها أحد، ومرجعيتها الوحيدة الرئيس نفسه. ويعتبر هذا التقرير أهم مرجع لمنظمة الشفافية الدولية التي لا تقوم بشيء سوى رصد الأرقام الرسمية الصادرة من المؤسسات الرسمية في السودان، من موازنة مالية إلى تقرير بنك السودان إلى تقرير المراجع العام، لتصل إلى حقيقة بديهية، تضع السودان في مركز متقدم جداً بشأن الفساد. والغريب أن البشير لا يزال يصر على رده الغريب، دفعاً عن تهمة مخجلة: من كان لديه دليل عن الفساد فليقدمه. يشابه هذا القول انتقاء البشير، هذه الأيام، من يفترض أنهم الأطراف المعنية بالحوار الوطني المزعوم، ويزج ببعضهم في السجون، ثم يقول الرئيس: "نحن ماضون في الحوار"!
تذكّرت ذلك الحديث الذي لا شك أن رصيد نميري هائل من مثله في غرابته، ولا يزال السودانيون يتذكرون كثيراً منها. وللرئيس الحالي، عمر البشير، رصيد معتبر أيضاً، خصوصاً حينما تأخذه "حالة الحماسة" إلى حالة من التجلي المماثلة للرئيس نميري. أهمها تقريباً ما حفظته عليه ملفات المحكمة الجنائية الدولية، حينما قال في خطبة مباشرة "قتلنا فقط 10 آلاف شخص في دارفور". وذلك في معرض نفيه عدد الأمم المتحدة للضحايا في الإقليم (200 ألف).
يتجاوز البشير كثيراً في سباب معارضيه والقوى الخارجية، وله رصيد من ذلك كثير جداً، وغير مسبوق ربما لأي رئيس دولة. ومن الغرائب، أنه في عام 1990، سألته الزميلة راغدة درغام في مقابلة صحفية عن استمرار حظر التجوال من السابعة مساء في الخرطوم، لأشهر بعد الانقلاب الذي جاء به إلى الحكم عام 1989، فأجاب: نحن لم نفرض حظر التجوال، بل الشعب هو من طلبه. دهشت الزميلة من إجابته: وكيف لشعبٍ أن يطلب فرض حظر التجوال عليه، فقال البشير: إذا لم تصدقي حديثي، زوري الخرطوم واسألي النساء، كيف هن مرتاحات من فرض حظر التجوال.
أما أغرب ردود الرئيس البشير، فهو لازمة تبدو مفضلة لديه، يعيدها، عندما يُواجه بأسئلة عن الفساد في السودان، وخصوصاً لدى المتنفذين في الحكم. يقول: هذه اتهامات لا سند لها. من لديه أي دليل على الفساد فليقدمه. ومعلوم أن هناك شخصية مهمة جداً في منظومة الحكم في السودان، موروثة عن النظام الاستعماري البريطاني، وهو رئيس ديوان المراجع العام. يعينه الرئيس عمر البشير ضمن صلاحياته ولا أحد يسائله في الحكومة سواه. ويقوم المراجع برصد دقيق للفساد في السودان سنوياً، ويرفع تقريره لرئيسي الجمهورية والبرلمان. وفي كل مرة، يصدر فيها، يثير التقرير عواصف عاتية من السخرية لدى السودانيين، لما يحتويه من غرائب الفساد. وأيضاً، لأنه الجهة الوحيدة في السودان التي تحطم الأرقام القياسية سنوياً بأرقام فلكية عن الفساد والأموال التي لا تُعرف أوجه صرفها، وغيرها من أرقام تزكم الأنوف، بما تدل عليه من أشكال متنوعة من فساد صريح، يحمل خاتم جهة رسمية لا يشكك في جدارتها أحد، ومرجعيتها الوحيدة الرئيس نفسه. ويعتبر هذا التقرير أهم مرجع لمنظمة الشفافية الدولية التي لا تقوم بشيء سوى رصد الأرقام الرسمية الصادرة من المؤسسات الرسمية في السودان، من موازنة مالية إلى تقرير بنك السودان إلى تقرير المراجع العام، لتصل إلى حقيقة بديهية، تضع السودان في مركز متقدم جداً بشأن الفساد. والغريب أن البشير لا يزال يصر على رده الغريب، دفعاً عن تهمة مخجلة: من كان لديه دليل عن الفساد فليقدمه. يشابه هذا القول انتقاء البشير، هذه الأيام، من يفترض أنهم الأطراف المعنية بالحوار الوطني المزعوم، ويزج ببعضهم في السجون، ثم يقول الرئيس: "نحن ماضون في الحوار"!