وعاظ الشعوب المقهورة يكذبون أيضاً
لا يمكن نفي ما قام به فقهاء السلاطين تاريخياً من اختلاق نصوصٍ، أو تأويل أخرى، لصالحِ النظم السياسية. وفي الوقت نفسه، لا يصحّ اختصار أسباب الانحراف في هذه "المُسَلّمة" وحدها؛ لأن ذلك لا يخدم الحقيقة التاريخية والعلمية التي ينبغي ألا تغفل الشرائح الساخطة على السلطان، والتي يكون منها رواة قد يحمّلون السلطان من الشَّين ما يمكن أن يكون تنفيساً مبطناً، ومعارضة مستترة للنظام السياسي القائم، فالمعارضة تكذب، أيضاً، وتبالغ كثيراً! بل إننا لا ينبغي أن نتجاهل المرضى الذين كانوا يكذبون لوجه الله تعالى، حباً في الكذب وعشقاً له من دون مقابل، أو تشوّفاً إلى مكانة المحدثين والمؤرخين، وهم كثر.
فلم يكن البعيدون عن سدة الحكم والمبعدون عنه منزهين عن الكذب والافتراء على خصومهم، فهم يخترعون الروايات، ليرفعوا شأن أنفسهم، ويحطوا من شأن علماء السلاطين، الذين ينافسونهم في صدارة المجتمع؛ وقد تدرك ذلك جيداً، وأنت تتبع مصدر حديث: "إن في جهنم وادياً تستعيذ منه جهنم كل يوم سبعين مرة، أعدّه الله للقراء المرائين بأعمالهم، وإن أبغض الخلق إلى الله عز وجل عالم يزور السلطان أو العمال".
ولعل هناك من اغتاظ من عدم نواله شيئاً من عطايا الأمراء؛ فأطلق عنان البغض والحسد لأقرانه الذين استثمروا مواهب النفاق، وتحصل لهم الغنى من ارتباطهم بالبلاط؛ فوضع حديث "هدايا الأمراء غلول". أو رواية: "يدخل الرّجل على السلطان ومعه دينه فيخرج وما معه شيء". أو: "من لزم السلطان افتتن".
كما أنّ هناك من يحاول توريط السلطان والإيقاع به، وقد يدفع ذلك السلطان أن يمرر الكذب لتفادي المواجهة. يروي الخطيب البغدادي أن المهدي قعد قعوداً عاماً للناس، فدخل رجل وفي يده نعل في منديل، فقال يا أمير المؤمنين هذه نعل رسول الله (ص)، قد أهديتها لك. فقال: هاتها. فدفعها إليه، فقبل باطنها، ووضعها على عينيه، وأمر للرجل بعشرة آلاف درهم. فلما أخذها وانصرف، قال لجلسائه: أترون أني لم أعلم أن رسول الله (ص) لم ير النعل هذه؟ فضلاً عن أن يكون لبسها؟ ولو كذبناه؛ قال للناس: أتيت أمير المؤمنين بنعل رسول الله (ص) فردها عليّ. وكان من يصدقه أكثر ممن يدفع خبره؛ إذ كان من شأن العامة الميل إلى أشكالها والنصرة للضعيف على القوي؛ وإن كان ظالماً.
وهذه القصة التي يروّجها بعض أهل الأدب والسياسة، ليثبتوا متانة عقل المهدي ورجحان رأيه وبلوغ حكمته، وهي تدخل في تمجيد السلطان؛ تصلح للتأويل بعكس ما وضعت له. وإن كان ما يعنينا من القصة ما ورد في العبارة الأخيرة التي وضعت على لسان المهدي: "من شأن العامة الميل إلى أشكالها والنصرة للضعيف على القوي؛ وإن كان ظالماً". فإنها لا تخلو من وجاهة، واحتمال قائم، وهي حقيقةٌ لعلّها اعتملت في نفس الراوي، فأجراها على لسان السلطان. وهي واقع لا سبيل لإنكاره!
وهناك من يحاول أن يحدث توازناً؛ فيختلق روايات منطقية "صورياً"، لكنها تحمل قيماً سماوية عادلة، من وجهة نظره "الأرضية جداً"، مثل رواية: "إن السلطان ظل الله في الأرض يأوي إليه كل مظلوم من عباده؛ فإن عدل كان له الأجر، وعلى الرعية الشكر، وإذا جار كان عليه الإصر، وعلى الرعية الصبر. وإذا جارت الولاة قحطت السماء، وإذا منعت الزكاة هلكت المواشي".
في حين حملت بعض أجساد الرواة الكذابين القدامى نفوساً ثورية، تطالب بالعدل الثوري عن طريق روايات ثورية، مثل: "إنه كائن بعدي أمراء يعرفونكم ما تنكرون، وينكرون عليكم ما تعرفون، فلا طاعة لهم عليكم".
وأمام هذا الكذاب المعارض ينتفض كذابو السلطة بوضع روايات مضادة للصواريخ؛ مثل: "ما من السنة أن يشهر السلاح على السلطان". و"لا تسبوا السلطان فإنه فيء الله في أرضه".
وإن حقيقة الدخول على السلطان لا يعني فحسب الدخول إلى بلاطه. ولكن، يعني أيضاً الدخول في دائرته؛ إن قبولاً وإن رفضاً كما رأينا.
وقد ذكرتُ عدداً يسيراً من أطنان من الكذب الذي امتلأت به مصادرنا القديمة، المتفق على وضعها وكذبها، لعل فيها ما يشير إلى أن وعاظ المعارضة الذين يمثلون الشعوب المقهورة لم يكونوا بريئين من جريمة إفساد المرويات القديمة، كما كان حال "وعّاظ السلاطين"، كما يروق لبعض الكتاب تسميتهم.
وكان يحيى القطان يقول: "ما رأيت الكذب في أحدٍ أكثر منه فيمن ينسب إلى الخير". حيث يكذب رواة كثيرون تقرباً إلى الله، فيختلقون روايات الزهد وفضائل الأعمال! وهناك من المرتزقة، مادياً ومعنوياً، من هم على استعداد دائم لتأليف الحكايات والحواديت من أجل المتعة، وجذب الأنظار ولفت الانتباه.
وكم استسلم رواة كثيرون لانطباعات العامة، وما ترغب الجماهير في ترويجه. وبلاط السلاطين قد يدخل عليه راوٍ أو اثنان أو عشرة، أما بلاط القلوب وعروش الجماهير، فيدخل عليه المئات والآلاف، على كل منبر جامع في مدينة كبرى، أو زاوية صغيرة في قرية صغيرة، وفي كل مقهى، وأمام كل حانة... إلخ! فلا يعني التأثر بالبلاط مجرد الانصياع لمتطلباته، بل قد يكون رد فعل رافضاً لواقع فرضه هذا البلاط.
مما يسلم إلى أن النظر لصحة المرويات أو خطئها؛ وفق نظرية الانتماء السياسي للراوي، أو التوجيه الأيديولوجي لـ"العبارة المروية"، واقتصارها عليه؛ يحتاج إلى مراجعة. كما أنه ليست كل رواية نلمح فيها معنى سياسياً؛ هي رواية مكذوبة ملفقة حتماً.
وإن إعادة قراءة التراث سوف تكشف عن حالة كبيرة من تضخم الكذب، في الاتجاهات. فإذا قرأتَ التراث حقيقةً، وليست المعاصرة أحسن من التراث؛ تجد كذباً في التاريخ السياسي والاجتماعي، وكذباً في فقه العبادات والمعاملات، وكذباً في الزهد والرقائق، وكذباً في الأصول والتفسير، ستجد كذباً على الكون والحياة والكائنات. وكذباً على الإنس والجن والملائكة والأنبياء، بل ستجد الكذب على الله عز وجل، بلا خجل ولا حياء.
وبحار الكذب وأنهار التلفيق هذه غير منفصلة البتة، ولا سبيل إلى ذلك. وكان حماد بن زيد يقول: "وضعت الزنادقة على رسول الله اثني عشر ألف حديث". فلماذا تتجمد عقولنا عند الموروث السياسي، أو التأويل السياسي للمرويات، ونظل نطوف حوله ولا نبرحه، ونجعله محوراً لكل فساد.
إننا بذلك نظلم (الفساد) كثيراً؛ فهو (أذكى) من ذلك جداً، وأكثر تنوعاً وتشعباً وانفتاحاً.