وطنٌ وطين

20 يناير 2020
+ الخط -
كثيراً ما كانت تشدُّنا سهراتُ آبائنا الفلاحين سابقاً أيام الشتاء، وخصوصاً سهراتِ الثلج عندما يجتمعون حول الموقد ويتغزلون بالصبايا بأجمل "العتابا" حيث حفظتُ هذا الموال:
"أنا لأجلك يا بنت عايف جماعتي
وما عدت أعرف خميسي من جمعتي
الجمر والتلج ع خدّك جَمَعْتي
لا الجمر انطفا ولا التلج داب"

أما اليوم فإن هذا البيت أكثر ما يوجعهم.. عندما التقيت العم أبو محمد في خيمته، وقال:
"اليوم يا ابني لا جمر قذايف بيت الأسد عم تنطفا، ولا تلج الشتا عم يحل عنّا، وهاد السبب إلي خلانا ما نعرف الجمعة من الخميس ونترك جماعاتنا وبيوتنا وليس حُسن الصبايا".

هذا عن الثلج وماذا أقول لك عن فاكهة الشتاء: المدفأة اليوم التي تحولت إلى مزقة بطانية ومن يحالفه الحظ يجد تنكةً يَمْلَؤُها ببقايا أوراق الخريف. نتقفقف مثل الفراخ في خيمتنا، كفراخ الوز المبتلة بماء البركة، غير أنّه ما يبللنا يا ولدي ماء الوحل وماء الوجه العربي إن بقي بوجوه العرب المتفرجين ماء.

لا ماء في بلد الماء ولا نفط في بلد النفط، لا مكان للشريف بيننا، إلا من استغل الثورة ليشحد علينا بكمراته ولولا معرفتي بك يا ولدي لما تكلمت ولا حرف معك. هنا في مخيمات الشمال السوري المنكوب حيث التقيت "أبو محمد" مخيمات متناثرة على طول الشريط الحدودي، والغُرَفْ التي تُوحي بالعجلة من أمرها المكتفية بالطين.. اجتمع في هذه المخيمات مئات آلاف السوريين من شتى الجغرافية السورية المكلومة.

هذا الشتاء ليس غريباً على السوريين، ولكن على ما يبدو هذا النوع من برودته: فلم تكتف روسيا بدعم النظام بتصريحاتها العسكرية المناصرة، بل صرّحت الأرصاد الروسية أنّ هذا الشتاء هو الأقسى في منطقة الشرق الأوسط منذ 40 عاماً، متأثرةً بامتداداتِ منخفضاتٍ جوية ساحلية قادمة من الصوب الشرقي للقارة العجوز "أوروبا"..

فشاركت تصريحاتُه بتشاؤم الناس وقتل الأبرياء بأسلحتها، وهذا ما دعا بعض الشبّان للسخرية حيث يقولون: من لم يمت بالسكود الروسي مات بمنخفضاتها الجويّة، وموت الفتى بالسكود أسهل وأهون..

والبرد ليس كالطفل.. فلا يختبئ داخل الخيام، وإنما يترصد الناس في أعمالهم اليومية، فيقفز من القدور والأوعية التي تحملها الصبايا لنقل المياه من بئر مجاور أو صهريج عابر سبيل ربما يتحنّن عليهنّ بقِدْرِ ماء، وهن سود الوجوه من الفحم والحطب، ولن تُطرب لصوت الغانيات منهنّ ولا لعذوبته، بل يفاجئك سُعالهن ونحيبهن، لأن هذه التدفئة المستعملة في الخيام ربما لا تصلح لتدفئة مداجن أوروبا أو حظائر الدجاج في خليج العرب، أو خليج فارس، لا فرق، فكلاهما العرب وفارس وأوروبا والبرد شركاء في قتل السوري..
وطنٌ وطين
والبرد ثالثنا ورابعنا الحنين.
E64C28A9-CD24-424F-A5E6-33CFB156835B
براء خالد الجمعة

أخصائي نفسي، ومترجم عن اللغة الفارسية