28 يناير 2019
وطنية وبراغماتية
حسين قاسم (سورية)
قال الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، إنّ بلاده ستنسحب من سورية قريباً وتترك الآخرين يهتمون بالأمر. ارتبكنا جميعاً وارتعدت مفاصلنا، ومعظمنا ذوي خلفيات يسارية. الرجل أضاف إنهم كانوا هنا لسبب واحد، التخلص من "داعش"، وبعدها العودة إلى المنزل. لم نصدق حديثه، ونحن نضمر اليسارية في محاكمة نوايا الرجل، نريده أن يبقى جهاراً، وأن يرحل سراً، ندرك أن الأمور ليست مجانية، وأنّ أميركا ليست جمعية خيرية، لكننا نغافل فهمنا وإدراكنا، مستكينين إلى الإنفصام في رؤيتنا وقرارنا.
يؤرقنا "الآخرون" الذين سيهتمون بالأمر، هل هم الروس وحلفاؤهم الإيرانيون؟ أم تركيا وحلفاؤها من الجيش "الحر" والفصائل المتطرفة؟ لا يصْدق الرجل في بعض أحاديثه، إذ سردت "سي إن إن" عشرات الأمثلة عن كذبه. لكن "العودة إلى المنزل" أيضاً إشكالية، فشرق الفرات قد يكون منزلاً لما فسره الفقهاء فينا عن أننا حجر الزاوية في المشروع الأميركي الجديد، بعد تخليها عن تركيا، ثاني دولة في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وذلك بعد إغلاقها قاعدة أنجرليك في وجه طائرات التحالف لضرب نظام صدام حسين أيام جورج بوش الأبن، والذي لقبناه بأبو الحرية (أبو أزاد) يوماً! ذاكرتنا لم يطالها التحديث منذ عام 2003 وسورية التي سيغادرها قد تكون "سورية المفيدة" لأن جيوش الرجل لم تتخلص من داعش بعد!
أعلنت المتحدثة باسم وزارة خارجيته، هيذر ناورت، أن الوزارة لا تملك معلومات بشأن تصريحات ترامب عن خطط الخروج من سورية. إنها تخاطب سرنا وتهدهد جهرنا، لكن الرجل يعلن بعد أقل من 24 ساعة تجميد أكثر من مائتي مليون دولار كان وزير خارجيته المقال، ريكس تيلرسون، قد وعد بها لجهود التعافي "الإعمار" في سورية، مع إعادة إدارته تقييم دور واشنطن في الحرب الدائرة في سورية.
تدخل فرنسا على خط الأزمة، وهي الدولة التي استعمرتنا بضع سنين، ونحنّ إليها، ويعلن رئيسها نيته إرسال جنود إلى منبج. تغرينا فرنسا وانتدابها ونفضلها في الخيارات الواقعية على تركيا ونستمع لخطاب أردوغان من لواء اسكندرون (هاتاي) بعد نيته تعيين والٍ على عفرين، وضمها إلى هاتاي، متوعداً بتلقين الأليزية درساً، ما يدفعنا إلى أن ننبش التاريخ، تاريخ الإنتداب والإستقلال، فنجد في مذكرات أحمد نهاد السيّاف (شعاع ما قبل الفجر) ما نعتبره ضالتنا.
إبراهيم هنانو، قائد ثورة الشمال في سورية، خاطبه المفاوض الفرنسي: "لا تغالي، يا هنانو، بطلباتك، وتذكر أنّ أسطول فرنسا وجيشها لا زالا في بلادك"، فأجاب: "كان من المفروض أن تهددني بانسحاب فرنسا من بلادي لا أن تهددني بوجودها".
كان هنانو يفاضل بين الخيارات، وحين سأله أحد رفاقه: "هل أنت تطالب بالجلاء وتركيا دائماً تحاول العودة إلى هذه البلاد؟ فإذا ما أحضرت فرنسا أسطولها وباشرت الانسحاب فماذا نحن فاعلون؟"، نظر هنانو إليه قائلاً: "أأنت مجنون؟ أعلم إذا ما انسحبت فرنسا عادت تركيا من الشمال.. كان من المفروض أن تطبق فرنسا في بلادنا نوعاً من الحكم الذاتي.. لا حكماً يتناقض ومبادئ الحرية، فإذا ما جدّ الجد، وقررت فرنسا الجلاء تمسكت بها وطلبت إرجاء ذلك فترة لأن انتداب فرنسا أمرٌ عابرٌ ومهما امتد الزمن، فهو إلى زوال، أما عودة تركيا فعودةٌ إلى حقب من الاحتلال واقتسام لسورية، وذلك أشد خطراً من الانتداب".
في أثناء محاكمة هنانو العلنية عام 1922 في حلب، وهو يذكر القضاة بتعاليم الثورة الفرنسية وما انبثق عنها من وثيقة حقوق الإنسان وإخلاصه لتعاليم الثورة، حكمت المحكمة ببراءة هنانو، بوصفه قام بعمل وطني مشروع، وهو أحد قادة الثورة ضد المحتل الفرنسي
لم تكن براغماتية هنانو عائقاً أمام ندّيته في التفاوض، حيث رفض عرضاً فرنسياً بإمارة تضم حلب ولواء أسكندرون قائلاً: "لا أستبدل تاجاً وضعه ربي على رأسي منسوجاً من قلوب الشعب بتاج مرصعٍ باللآلئ تضعه يد جنرال فرنسيٍ، ولا أقبل بتقسيم سورية".
نحن أحوج إلى عقل شبيه بعقل هذا الرجل في هذا الظرف العصيب.
يؤرقنا "الآخرون" الذين سيهتمون بالأمر، هل هم الروس وحلفاؤهم الإيرانيون؟ أم تركيا وحلفاؤها من الجيش "الحر" والفصائل المتطرفة؟ لا يصْدق الرجل في بعض أحاديثه، إذ سردت "سي إن إن" عشرات الأمثلة عن كذبه. لكن "العودة إلى المنزل" أيضاً إشكالية، فشرق الفرات قد يكون منزلاً لما فسره الفقهاء فينا عن أننا حجر الزاوية في المشروع الأميركي الجديد، بعد تخليها عن تركيا، ثاني دولة في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وذلك بعد إغلاقها قاعدة أنجرليك في وجه طائرات التحالف لضرب نظام صدام حسين أيام جورج بوش الأبن، والذي لقبناه بأبو الحرية (أبو أزاد) يوماً! ذاكرتنا لم يطالها التحديث منذ عام 2003 وسورية التي سيغادرها قد تكون "سورية المفيدة" لأن جيوش الرجل لم تتخلص من داعش بعد!
أعلنت المتحدثة باسم وزارة خارجيته، هيذر ناورت، أن الوزارة لا تملك معلومات بشأن تصريحات ترامب عن خطط الخروج من سورية. إنها تخاطب سرنا وتهدهد جهرنا، لكن الرجل يعلن بعد أقل من 24 ساعة تجميد أكثر من مائتي مليون دولار كان وزير خارجيته المقال، ريكس تيلرسون، قد وعد بها لجهود التعافي "الإعمار" في سورية، مع إعادة إدارته تقييم دور واشنطن في الحرب الدائرة في سورية.
تدخل فرنسا على خط الأزمة، وهي الدولة التي استعمرتنا بضع سنين، ونحنّ إليها، ويعلن رئيسها نيته إرسال جنود إلى منبج. تغرينا فرنسا وانتدابها ونفضلها في الخيارات الواقعية على تركيا ونستمع لخطاب أردوغان من لواء اسكندرون (هاتاي) بعد نيته تعيين والٍ على عفرين، وضمها إلى هاتاي، متوعداً بتلقين الأليزية درساً، ما يدفعنا إلى أن ننبش التاريخ، تاريخ الإنتداب والإستقلال، فنجد في مذكرات أحمد نهاد السيّاف (شعاع ما قبل الفجر) ما نعتبره ضالتنا.
إبراهيم هنانو، قائد ثورة الشمال في سورية، خاطبه المفاوض الفرنسي: "لا تغالي، يا هنانو، بطلباتك، وتذكر أنّ أسطول فرنسا وجيشها لا زالا في بلادك"، فأجاب: "كان من المفروض أن تهددني بانسحاب فرنسا من بلادي لا أن تهددني بوجودها".
كان هنانو يفاضل بين الخيارات، وحين سأله أحد رفاقه: "هل أنت تطالب بالجلاء وتركيا دائماً تحاول العودة إلى هذه البلاد؟ فإذا ما أحضرت فرنسا أسطولها وباشرت الانسحاب فماذا نحن فاعلون؟"، نظر هنانو إليه قائلاً: "أأنت مجنون؟ أعلم إذا ما انسحبت فرنسا عادت تركيا من الشمال.. كان من المفروض أن تطبق فرنسا في بلادنا نوعاً من الحكم الذاتي.. لا حكماً يتناقض ومبادئ الحرية، فإذا ما جدّ الجد، وقررت فرنسا الجلاء تمسكت بها وطلبت إرجاء ذلك فترة لأن انتداب فرنسا أمرٌ عابرٌ ومهما امتد الزمن، فهو إلى زوال، أما عودة تركيا فعودةٌ إلى حقب من الاحتلال واقتسام لسورية، وذلك أشد خطراً من الانتداب".
في أثناء محاكمة هنانو العلنية عام 1922 في حلب، وهو يذكر القضاة بتعاليم الثورة الفرنسية وما انبثق عنها من وثيقة حقوق الإنسان وإخلاصه لتعاليم الثورة، حكمت المحكمة ببراءة هنانو، بوصفه قام بعمل وطني مشروع، وهو أحد قادة الثورة ضد المحتل الفرنسي
لم تكن براغماتية هنانو عائقاً أمام ندّيته في التفاوض، حيث رفض عرضاً فرنسياً بإمارة تضم حلب ولواء أسكندرون قائلاً: "لا أستبدل تاجاً وضعه ربي على رأسي منسوجاً من قلوب الشعب بتاج مرصعٍ باللآلئ تضعه يد جنرال فرنسيٍ، ولا أقبل بتقسيم سورية".
نحن أحوج إلى عقل شبيه بعقل هذا الرجل في هذا الظرف العصيب.