لم تلتزم بالترسيمات التي تمليها عادةً الجاذبية الواقعية في الرسم، ولم تسرد مرويات المشهد البغدادي، أو تزيّن مرئياته التي أودعتها عين القلب وخزين الذاكرة على نحو تسجيلي أو اعتباطي، بل جعلت من الواقع وسردياته المثقلة بضراوة الراهن، منطلقاً لاختبار قدرة الفن على ابتكار واقعه الجديد؛ واقعاً أطلّت الفنانة العراقية وسماء الآغا (1954 - 2015) التي رحلت قبل أيام في عمّان، من عيونه السحرية على الخفّة التي يتفرّد بها الجمال وهو يتخمّر في عجينة المرارة والخراب.
ومع تفاصيل الواقع نفسه، بمشاهده وحكاياته الحافلة بالتنوّع والثراء، انحازت أعمال الآغا طيلة مسيرتها الفنية منذ أواسط سبعينيات القرن الماضي، إلى مفردات الذاكرة البغدادية ومؤثثاتها البصرية.
وحين راحت ترصد الطقوس الاجتماعية والملامح البيئية في محيطها وعلى سطح اللوحة، ابتكرت عيناً ثالثة لتحيك معها، ومن خلالها، نسيج التعبير والتكوين على نحو اسثنائي ومتفرّد. نسيجٌ قوامه تذويب الفروقات بين الواقعية السحرية والواقعية الاجتماعية على سطح التصوير وفي مرجعياته وخيالاته.
الحياة اليومية والتفاصيل البيئية، النساء البغداديات وطقوس المسرّات، أسطرة الواقع والانزياح به نحو مناخات سحرية حالمة؛ جملة من مشهديات لوحة الفنانة التي حصلت على دكتوراه فلسفة تاريخ الفن من كلية الفنون الجميلة في بغداد عام 1996، وكانت قبيل رحيلها تشغر منصب أستاذة تاريخ الفن الاسلامي والحديث في الجامعة نفسها، وهي المشهديات نفسها التي تُحيل مباشرة إلى انحيازها لقيم الحياة.
وهو ما أكّدته دائماً، إضافةً إلى ما تؤكده لوحاتها، في معرِض تعليقها على منتقدي رسمها للراقصات الشرقيات، أنها تسعى إلى إبراز الجانب التطهيري للرقص، وتحاول من خلال لوحاتها، رسم الحزن ضمن مناخاتٍ وطقوسٍ جمالية.
ظلّت صاحبة الآغا وفيّةً لتقاليد الرسم العراقي التي أرسى قواعدها صاحب "مدرسة بغداد للتزويق" ومبدع المقامات التصويرية للحريري يحيى الواسطي قبل نحو 800 عام، والذي حقّق "ثورة ناعمة" على مستوى الأنساق البصرية ومفاهيمها الجمالية، وذهابه غير المسبوق إلى توظيف الفراغ باعتباره مفردة بصرية ذات قيمة تعبيرية عالية.
وإذا كان الواسطي بارعاً في تصوير الحياة اليومية من دون رتوش أو تحيّزات، معتمداً الإيهامات البصرية التي برع في تحميلها لرسوماته؛ فإن الأغا، من جهتها، برعت في تحويل المشاهد الحياتية والإيهامات البصرية إلى خيالات وأساطير واقعية تستمد فاعليتها السحرية من الحضور المركزي للمرأة على سطوح أعمالها.
وحين تحضر المرأة في لوحتها مصحوبة بطقوسها ورغائبها، تحضر الخفّة بكامل إيقاعها، لتحرير اللوحة من قيود الجاذبية وكثافة الواقع. فالمرأة تُعيد تأثيث المشهد بمفردات حضورها، وتشيّد عِبر الموسيقى والرقص، والغنائية اللونية وشاعرية التعبير، واقعاً آخر متعالياً، وربما بديلاً عما يرفل به الواقع من دمار وخراب. وهو ما أشارت إليه الفنانة الحائزة على جائزة التخطيط والألوان من لندن العام 1975 في تعبير آخر:
"أحوّل الواقع إلى أسطورة من خلال المرأة فيما هو واقع أسطوريّ يحيطنا فعلاً. أشدّ ما نراه في المرأة العراقيّة تلك النخلة العصيّة على كلّ أعاصير العبث الذي يصنعه الرجال لتبتلى به النساء دائماً".
أعمال الآغا لتي أقامت معرضها الأول عام 1976 في "المتحف الوطني للفن الحديث" في بغداد، تحمل علامتها المميزة لجهة التمازج الشفيف بين الواقعية والتعبيرية. إضافة إلى قدرتها على تطويع الألوان الصريحة وجعلها مفردة رئيسية في تقاسيم التعبير والتكوين، وهو ما يجبر عين المتلقي على التحرك مع نسيج لوحتها والطواف بين عناصرها، بوتيرة بندولية. فيما تكشّفت واقعيتها السحرية عن حساسیتھا المرھفة في تحریك الشكل والضوء بالاتجاه الذي تستحيل معه اللوحة إلى حاضنٍ تعبيري مفتوح على تقاطعات السرد بين الواقع والخيال.