وحش وطفلتان سوريتان

13 مايو 2014
+ الخط -

يوسف حاج علي

 

بدا هائماً على وجهه كمثل ضبع جائع، حتى رآهما تجلسان على حافة قرب محل فاخر. لم يكن صعباً عليه أن يفهم بأن ليس لديهما شيء آخر غير الذي في ذهنه، تبيعانه. اقترب من المراهقتين اللتين تتحدثان بلهجة سورية واضحة. ستينيّ هزيل، بعينين نافرتين وربطة عنق رفيعة على بدلة فاقعة اللون وشعر مربوط من الخلف أفرط صاحبه في تلميعه. فوق البدلة علّق سلسلة ذهبية تنتهي بشارة دينية. كان أشبه بقوّاد عتيق وقد وقع لتوّه على فريستين معاً فسال اللعاب من عينيه.

المراهقتان من العمر نفسه، لكن إحداهما أقوى حضوراً من الأخرى. ترتديان ملابس عادية وتراقبان ما يجري حولهما بعيون الغريب الزائغة. اقترب منهما وسأل واحدة منهما أن يحادثها بعيداً عن رفيقتها. اختار الأقل كلاماً.

وقفت بتردد. سارت نحوه بخطى ثقيلة. كانت أظافرها التي تعضّها خلال جلوسها غير مقلّمة وتضع على وجهها شيئاً من ماكياج خفيف. ماكياج من النوع الذي يؤكد أن صاحبته تكتشف عالم الأنوثة قبل أوانها. ماكياج بأصابع طفلة وقعت على علبة ألوان والدتها فقرّرت تقليدها ولم تفلح.

كان الوحش يأكل الطفلة بعينيه وهو يفاوضها على "الثمن". يعرّيها بنظراته القاسية. ساومها كما لو أنه في سوق. يقترح سعراً فترفضه، ثم يقترح سعراً أعلى فتستمر في رفضها. الناس تسير في شارع الحمراء ولا أحد ينتبه للمشهد. كأنه لا يحدث في الشارع البيروتي. ولم يكن المفترس آبها أصلا بالمارين. كان يفاوض طفلة على متعة مرضية لم يكن ليحلم بها لولا أن شعباً كريماً يختبر أعظم مآسيه. وكما الذين من جنسه، كان جشعاً، وكان يريد امتصاص آخر قطرة دم من جسد ضحيته، مقابل أقل ما يمكن أن يدفعه من مال.

الطفلة بدت مرتبكة. السّعر غير مهم بالنسبة إليها لكن بالها في مكان آخر. في طفولة سُلخت عن جلدها قبل الأوان. بمرارة أيام تدفعها إلى ذراعي مخلوق كهذا. بجوع يعضّ المعدة. بأم تنتظر وأخوة صغار. ربما كان بالها مشغولا بلحظة أدركت فيها حقيقة أن العالم لا يجيد إلا سحق الضعفاء.

ظلّ يفاوضها واللعاب يسيل من عينيه. مع ذلك، لم تلتق عيناها بعينيه إلا مرّة. لم تكن تريد أن تنظر إلى وجهه الجائع ولم تكن تريد مالاً. كانت بحاجة إلى دمية ربما، أو مدرسة.. أو بكاء. لكنه لم ير ذلك. كان يحدّق.

ومع أنه بقي يرفع الثمن في محاولة لاستمالتها ظلّت إجابتها سلبيّة. استمرّ ذلك إلى أن توقّف عند رقم ما. قرّر في داخله المعتم أنها لا تستحق أكثر من ذلك، فأنهى الحديث.

عادت إلى الحافة بخفّة، وجلست قرب رفيقتها التي أنّبتها، بينما مدّ يده إلى جيب داخلي في سترته، وسحب منه مشطاً أسود وأعاد تصفيف شعره الأبيض الباهت، ثم مرّر المشط على شاربيه تعبيراً عن غلوّ في الاهتمام بمظهره وإشارة للانطلاق في البحث عن "صفقة" أخرى. نظر إليهما من فوق إلى تحت، وتجاهلتاه. مشى حتى غرق بين حشود الناس وتلاشى كأنه لم يكن.

كانت رفيقتها ما زالت تؤنّبها عندما اختفى، مع ذلك لم تفارق الابتسامة وجهها. كان انتصارها الصغير الذي تسطّره منذ فترة طويلة. انتصار طفولتها على عالم شرير يلفّ عمرها والألوان غير المتناسقة على خدّيها.

نفذت الطفلة من أنياب الوحش ومن عينيه. ابتسمت. لكن لا شيء يؤكد بأن الابتسامة نفسها سترتسم على هذا الوجه في المرّة التالية.

المساهمون