وحدي أمام الجدار

16 ديسمبر 2014

زياد أبو عين في مواحهة جنود الاحتلال (14نوفمبر/2014/الأناضول)

+ الخط -

ربما كنتُ مخموراً، على طريقة جدّي امرئ القيس، في شتاء العام 1981، حين بلغني نبأ تسليم السجين الفلسطيني في الولايات المتحدة، زياد أبو عين، إلى إسرائيل، فاستيقظت بغتةً، مردداً مع امرئ القيس: "اليوم خمر وغداً أمر".

ولئن كان الشاعر التشيلي، بابلو نيرودا، اعترف بأن الحرب الأهلية الإسبانية بدأت باغتيال رفيقه الأغلى، لوركا، فإن اللحظة الشعرية، بالنسبة لي، أنا الشاعر المغمور، بدأت لحظة تسليم أبو عين إلى السجان الصهيوني. ولا أبالغ إذا اعترفت، أيضاً، بأن الهمّ الفلسطيني بالنسبة لي، أنا الفلسطيني، المنفي قبل ولادتي، بدأ، أيضاً، منذ تلك اللحظة، فوجدتني أبدأ شعري وقضيتي بقصيدةٍ كتبتها بعنوان "زياد أبو عين"، وكان من أبياتها:
فيا أبا العينِ إنَّ العينَ راجفة/ تخشى العيونَ لعينٍ فيكَ ترمينا

كنت كلما عاينتُ في الصحف عيني الشاب أبو عين الخجولتين، وتتبعت أخبار محاكمته في أميركا، وتطورات تسليمه إلى إسرائيل، وردود الفعل العالمية عليها، أشعر بانكماش ذاتي، وبرغبة عارمة في انتشاله من مصيره الآيل إلى معتقلات الاحتلال، وأدركت، آنذاك، معنى العجز الفردي والوطني والعربي العام، مثلما أيقنت أن للعيون مخارزها التي تثقب القلب، وتغير مجرى الحياة برمتها.

آنذاك، تغير مجرى حياتي، بعد أن ألقيت كؤوسي جانباً، على طريقة امرئ القيس أيضاً، وانخرطت في قضيةٍ، كنت أهرب منها طويلاً، لأنني أعرف تبعاتها في وطن عربي، لا يريدني أن أصحو من غيبوبتي، وأستيقظ على "ملكي المغتصب" في فلسطين.

ولا أفشي سراً إذا اعترفت، أيضاً، بأنني ظللت مشدوداً إلى عيني أبو عين، طوال رحلة حياتي وحياته، فكنت أتوقف مطولاً عند كل خبر عنه، منذ لحظة خروجه من المعتقلات الصهيونية، واستئنافه نضالاته، على الرغم من سنوات العذاب والسجون، حتى بلوغه منصبه الذي استشهد عليه، قبل أيام، رئيس هيئة مقاومة الجدار والاستيطان، فكنت أشحذ قلمي المتمرد من نصل عينيه الحادتين، بين حين وآخر، وأملأ رئتي بهوائه المقاوم، وبالرغبة العارمة في إسقاط الجدران العازلة، في وطني العربي الكبير، التي تفصلنا عن الحرية والكرامة والوحدة.

كنت أشعر أن معركتنا واحدة، وإن اختلف "الأعداء"، لأن الأرض العربية امتلأت، هي الأخرى، بمستوطناتٍ يقطنها "مستوطنون" من أبناء جلدتنا، ويمارسون ضدنا "الفصل العنصري"، وشتى صنوف القهر والقمع والكبت، ويحاربوننا نيابة عن "الوكالة اليهودية".

كنت أقف، أنا وإياه، أمام "جدار واحد"، نهتف معاً ضد الطغيان، وضد إسرائيل والأنظمة، ونتلقى معاً، الرصاص الحيّ و"الميت"، والهراوات التي تنهال على رؤوسنا، وأعقاب البنادق التي تدق عظامنا، وقنابل الغاز التي تحرق رئاتنا. لكن، كان واحدنا يسند الآخر، أنا بقلمي، وهو بعينيه اللتين أيقظتاني على التحدي الممتزج بعربات الحزن اليومي، فنزداد تصميماً على تحطيم الجدران التي تحجب عنا نصفنا الآخر الذي نبحث عنه، كلانا، في فلسطين والحرية.

أسند كل منا الآخر، حتى سقط نصفي، قبل أيام. تركني أبو عين، هذه المرة، وحيداً من دون عينيه اللتين أقاتل بهما، وأثقب المخارز بضوئهما، تركني أمام الجدران أعزل، لأتلقى الضربات والرصاصات وحدي، بعد أن أخذ نصيبه منهما، وارتفع فوق جدران العجز واليأس، المنتصبة كالأوتاد على أرواحنا.

تُرى، من بعدك، يا أبا عين، سيوقظني من غيبوبتي الطوعية، إذا يئست من عروبتي وقومي، وفرّطت بـ"ملكي المضاع"؟ ومن سيأمرني أن أهشم كؤوسي، وأتبع "أمراً" صار دونه ألف جدار وجدار؟ أي عينين ستردّان عني فخاخ عيون الحكام والمحققين والمخبرين، الجاحظة في الظلام العربي الداكن، من أول التاريخ الكاذب حتى آخر الجغرافيا الممزقة؟ عيناك في النعش مفتوحتان على جراحنا، تعاودان لطمي من جديد، فأشعر أن لا فرق بين اليوم وثلاثين عاماً مضت، حين كتبت من مداد حزنهما:

فيا أبا العينِ إن العينَ راجفةٌ/ تخشى العيونَ لعينٍ فيك ترمينا

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.