رغم الازدهار الملحوظ في الكتابة الروائية في اليمن خلال السنوات القليلة الماضية، وتنوّع الأسماء والإصدارات الجديدة، إلا أن وجدي الأهدل ما زال محتفظاً بمكانه في المقدمة، أو بين الذين في المقدمة.
الكاتب اليمني (1973)، الذي بدأ تجربته الأدبية قبل نحو عقدين، تحتل أعماله مكانة لافتة بين أبناء جيله، وحتى الأجيال السابقة، من الروائيين اليمنيين الذين يشكلون حلقة السرد في البلد الذي ما فتئ يوصف بالسعيد، رغم شقائه. ذلك أن أعماله على تماس مع المجتمع، ولا تنفك عن إعمال أدواته في تشريح قضاياه. هذه القرب من بلده/ مسرح أحداثه، الذي ظهر بدءاً من روايته "قوارب جبليّة" (2002)، اضطر الكاتب اليمني إلى مغادرة البلد.
كانت "قوارب جبلية" رواية جريئة، ومفاجأةً في الأدب اليمني والعربي، لما قدمته من تأمُّل في شخصيات عنيفة ومعنّفة تفضح التابوهات الثلاثة، الديني والسياسي والاجتماعي، وتشرّحها. ومع نشرها، اتُهم الأهدل بإساءته إلى الذات الإلهية واجتمعت في إدانته سلطات التابوهات الثلاثة، ما اضطره إلى السفر إلى لبنان هارباً ومنفياً.
لم يطُلْ منفى الأهدل في لبنان. وربما يكون للحظ دور كبير في إعادته إلى بلاده. فقد تزامنت حكايته مع الزيارة اليتيمة للروائي الألماني غونتر غراس إلى اليمن في العام نفسه. وكان صاحب "نوبل" (1999)، قد أعلن رفضه تسلّم وسام استحقاق تقدم به الرئيس السابق علي عبد الله صالح، حينها، إن لم تحل مسألة الأهدل. لم يتوقع أحد من المثقفين العرب الحاضرين أن يقوم غراس بهذه المبادرة. هكذا، وجد صالح نفسه محرجاً ومضطراً إلى أن يعطي الأهدل الأمان والإذن بالعودة إلى وطنه استجابةً لطلب صاحب "طبل الصفيح".
عن هذه الحادثة والأثر الذي خلّفته الرواية لدى الكاتب، يقول الأهدل، في حديث مع "العربي الجديد": "أوّل ما تركت فيَّ الرواية من أثر هو إدراك القوة الهائلة للأدب. بمعنى أن المجتمع اليمني يبدو لامبالياً بالثقافة والآداب والفنون، أو كما أسمّيه، مجتمع نائم ثقافياً؛ فهو يحتاج أحياناً إلى أعمال فنية وأدبية توقظه من هذا السبات. بالطبع، تختلف ردود الأفعال. هناك مَن سيشكرك على إيقاظه من نومه لأن لديه موعداً مع المستقبل، وهناك من سيلعنك لأنه كسول وخامل وليس لديه شيء يفعله في الحاضر أو المستقبل".
بعد عودته السريعة وغير المتوقعة، أصدر الأهدل روايته الثانية "حمار بين الأغاني" (2004)، وحملت إهداء إلى غونتر غراس: "أشكرك أيها العزيز لأنك أنقذتني من ويلات المنفى وأعدتني إلى بلدي حراً طليقاً". يوافق الكاتب على أن عالم هذه الرواية السردي يتشابه مع "قوارب جبلية"، ويبدو كأنه تكملة لفراغاتها ومحاولة للانعتاق من صدمة تداعياتها. يوضح الأهدل: "أنا مدين لغونتر غراس بعودتي إلى وطني، وتالياً باستكمال مشروعي الكتابي. لقد جرّبت الإقامة في المنفى، ووجدت أن اقتلاع الإنسان من جذوره يترك تشوّهات في الروح لا يمكن ترميمها، كما أن المؤلف الروائي ـ وهذه وجهة نظر قد لا تنطبق على الغالبية ـ يحتاج إلى الاحتكاك اليومي بواقعه ليتمكن من الكتابة عنه".
تزوّدنا أعمال الأهدل بمعرفة عميقة بالمجتمع الذي كُتبت عنه، إذ تقدّم صورة للعلاقة القِيَمية بين البشر بطبقاتهم المتمايزة، وتكشف تلازم ثنائيات السياسي والمتديّن وما يربط بينهما من "رغبة السيطرة والاستحواذ على المُجتمع". إذ يعتقد صاحب "أرض بلا ياسمين" أن آباءنا وأجدادنا ومن كانوا قبلنا بمئات السنين "هم مسلمون أفضل منّا. لم يكونوا بحاجة إلى هذه الوصفة العصرية المسماة التديُّن. يسعى المتديّن في عصرنا إلى تمييز نفسه عن الآخرين لإظهار فضيلته وأفضليته على غيره. وهو في هذه الحالة يتشبّه بالسياسيين الذين يسعون إلى إظهار مزاياهم للعامة لأغراض معروفة".
يَرِد المكان في أعماله القصصية والروائية، التي تكتسب في معظمها طابعاً بوليسياً غرائبياً، كبطلٍ موازٍ لبطولة شخصياته الروائية التي يكون مصيرها عادة إما الهروب أو الاختفاء. يقف خلف هذين الخيارين خيط سردي يربط بين مكانين. أما زمن الأهدل فطويل، وتبدو فيه الساعة كما لو أنها توقفت أو على وشك أن تتوقّف.
ونستدلّ في التفاصيل التي يسردها بلغة مكثفة على صفحات قليلة مُحمّلة برمزية، ليست مُغرقة في غموضها، على رؤية لوظيفة السرد في كشف القيم الزائفة للمجتمع من دون مواربة: "مهمة الأدب تكمن في تهذيب الروح الإنسانية. إنه أهم أداة اخترعها الإنسان ليتطهّر من نوازعه الوحشية وردود فعله العنيفة. القارئ الشّغوف بالأدب لا يمكن أن يكون متعصباً أو متصلباً في آرائه، أو جامداً ومنغلقاً. كلما تقدّم أكثر في قراءة الأدب كلّما صار أكثر تسامحاً وانفتاحاً على الشعوب والحضارات الأخرى".
يمكن اعتبار الأهدل محظوظاً من ناحية ترجمة بعض قصصه ورواياته إلى الإسبانية والكورية والروسية، فترجمت "قوارب جبلية" إلى الفرنسية، و"حمار بين الأغاني" إلى الإيطالية، و"بلاد بلا سماء" إلى الإنجليزية.
وردّاً على سؤالنا حول ما إذا كان يضع في اعتباره الترجمة أثناء كتابة رواياته، يؤكد الأهدل أن "من يكتب لتُترجَم أعماله غبيّ. التقدير الحقيقي لأي كاتب يبدأ من مجتمعه، وعليه أن يضع في حسبانه فقط الأمة التي يكتب بلغتها. في ما يتعلق بأعمالي التي ترجمت، فإنني أراها غريبة عني، وأنها تنتسب للمترجم أكثر ممّا تنتسب إليّ. بمعنى أن الأسلوب لم يعد يخصني، وإنما يخص المترجم. وعمّا تحققه تلك الترجمات، ليس بإمكاني الجزم بشيء محدد: الأزمنة الثقافية ليست كلها بتوقيت غرينتش! نادراً ما يتمكن روائي من أن يتزامن مع عصره. والروائي الذي يفعل ذلك سوف تحقق كتبه مبيعات جيدة".
يعود الأهدل حالياً إلى عالم القصة القصيرة الذي انطلق منه. وكان قد أصدر أربع مجموعات قصصية، أوّلها "حرب لم يعلم بوقوعها أحد"، عام 2001، تبعتها ثلاثة أعمال أخرى. صدرت أخيراً طبعة جديدة من روايته "فيلسوف الكرنتينة"، التي افتتحت بها "دار كيكا" إصداراتها. كما أن روايته "بلاد بلا سماء"، بنسختها المترجمة، حصلت على جائزة "سيف غبّاش ـ بانيبال" عام 2012.