وثائقيان عن الموسيقى والسينما: جماليات الروح

11 مارس 2019
"روك كابول" لترافيس بيرد: الموسيقى تتحدّى المخاطر (فيسبوك)
+ الخط -
جائزة واحدة تُمنح لأفضل فيلم وثائقي، بالإضافة إلى تنويه يناله فيلم آخر. هذه نتيجة المسابقة الرسمية الخاصّة بالأفلام الوثائقية، في الدورة الثالثة (2 ـ 8 مارس/ آذار 2019) لـ"مهرجان شرم الشيخ للسينما الآسيوية". الجائزة ممنوحة لـ"روك كابول" (أفغانستان ـ أستراليا، 2018، 90 دقيقة) لترافيس بيرد، والتنويه لـ"76 دقيقة و15 ثانية مع عباس كياروستامي" (إيران، 2017، 76 دقيقة) لسيف الله صمديان. الفرق شاسع بين الفيلمين، فالأول يميل إلى لغة الـ"فيديو كليب"، المشغولة بحِرفية متينة الصُنعة، لكن من دون تبنّيها كلّيًا، ويتناول صراعًا تاريخيًا بين الإيديولوجيا المتزمّتة والرغبة في الخروج عليها؛ والثاني يُسرِف في اشتغاله السينمائي، تصويرًا وتوليفًا وسردًا حكائيًا، ويصنع من جوهر الحكاية شهادة عن حِرفيةِ مهنيٍّ منفتح على آفاق من الابتكار البصري.

التناقضات بين الفيلمين عديدة، رغم انتمائهما معًا إلى ما يُمكن وصفه بـ"سينما الشهادة"، أي تلك التي توثِّق لحظاتٍ حيّة، مانعةً إياها من الاندثار. الجماليات مختلفة، فتقنية السرد السريع والتقطيع الأسرع تصنع سيرة فرقة شبابية أفغانيّة، تعزف موسيقى "الميتال" (روك كابول)؛ بينما تقنية الإيقاع الهادئ والمونتاج الأهدأ تُقدِّم لحظات متنوّعة من عمل عباس كياروستامي، إن يكن العمل تصويرًا فوتوغرافيًا، أو كتابة شعر، أو تصميم تجهيز فنّي وتنفيذه، أو اشتغالاً على تصوير لقطة سينمائية (76 دقيقة و15 ثانية مع عباس كياروستامي).

الموسيقيّ والصحافي الأسترالي ترافيس بيرد مهمومٌ بمواكبة يوميات تلك الفرقة الشبابية، من دون الابتعاد عن نبض المدينة وتبدّلاتها، منذ تسلّم "طالبان" الحكم، وبدء الحرب الأميركية ضدها (إقامته في كابول ممتدّة على 7 أعوام)؛ بينما ينشغل سيف الله صمديان، المُصوِّر السينمائيّ العامل مع كياروستامي زمنًا طويلًا وأفلامًا عديدة، بمراقبة لحظات الإبداع والخلق التي يعيشها السينمائيّ الراحل.

بالإضافة إلى هذا، يعاين بيرد ـ بمواكبته الفرقة ويومياتها وانشغالاتها وهواجس أفرادها الأربعة ـ مسائل متعلّقة بالفن والهوية والانتماء والهجرة والصداقة، وبموقع الموسيقى في بلدٍ متشدّد في مناهضتها، وبحضور "أميركا" في تلك البقعة الجغرافية، من دون الانزلاق إلى فخّ السياسة المطلقة، فهذا ليش شأن الفيلم ومخرجه. ويكتفي صمديان ـ مُرافق كياروستامي في لحظات إبداعه ـ بمسائل تقنية تكشف شيئًا كبيرًا من الحساسية الإنسانية المرافقة لابتكار صُوَر وكلمات. مع بيرد، يتداخل الخاص (فرقة "منطقة مجهولة"، مؤلّفة من بيدرام عازف الطبول وشقيقه قاسم (Bass)، ولامار عازف الغيتار والمغنّي وقيس عازف الغيتار أيضًا)، بالعامّ (أحوال أفغانستان وشبابها، وانقلابات أحوالها وتبدلات مجتمعها)؛ ومع صمديان، تُهيمن الحميمية الفردية على السياق السردي والمناخ الدرامي والمسار الحكائي، وهي حميمية مرتبطة بكيفية عمل الفنان وإنْ تتنوّع الفنون التي يبتكر أشكالاً لها من تفاصيل صغيرة، أو هوامش غير مُثيرة للانتباه أحيانًا، أو من مادّة محورية تبني فيلمًا. وهذا كلّه من دون تناسي "حميمية" العلاقة التي تربط السينمائي والمُصوّر الفوتوغرافي والشاعر (كياروستامي) بأناسٍ يعملون معه في صناعة أفلامه، كالفرنسية جولييت بينوش والإيرانية طاهرة لادانيان، وبمخرجين هم أصدقاء وزملاء مهنة، كالإيرانيين مسعود كيمياري وجعفر باناهي.

مَنْح "روك كابول" لترافيس بيرد جائزة أفضل فيلم وثائقي، نابعٌ من ميلٍ واضحٍ إلى تغليب الموضوع، وهو حسّاس وآنيّ ومهمّ، على الشكل السينمائي، وهذا أساسيّ في صناعة الأفلام. التنويه المُعطى لـ"76 دقيقة و15 ثانية مع عباس كياروستامي" لسيف الله صمديان تأكيدٌ على أن الشكل السينمائي أساسيّ ومطلوب، وإنْ يتمتّع بمضمون حيوي وبصري وجمالي فهذا يُضيف جمالاً على جمال الشكل أيضًا. الميل إلى تغليب الموضوع متأتٍ من راهنٍ قاسٍ في سطوة التشدّد والانغلاق والعزلة والسعي إلى تحطيم الآخر المختلف، بينما التنويه منبثقٌ من "عجزٍ" عن تجاوز الجماليات السينمائية، شكلًا ومضمونًا. فـ"روك كابول" منهمكٌ في تصوير المسار التصاعديّ لـ"منطقة مجهولة" داخل أفغانستان، وفي التقاط نبض الشارع والحالة الأفغانيَّين، حيث التفجيرات والنزاعات الطائفية (عملية إرهابية ضد السفارة الهندية، وأخرى ضد شيعة يمارسون احتفالًا دينيًا أثناء عاشوراء) سببٌ لتنبّه لامار إلى أن بلده غير آمن، وإلى أن المغادرة تلحّ عليه: "إنه أمرٌ جيّدٌ أن أكون محميًّا من الكمائن والانفجارات كلّها. سأكون مُمتنًا إنْ أبقَ على قيد الحياة"، يقول لامار أمام كاميرا ترافيس بيرد، مُضيفًا أن كلّ أفغانيّ يريد الابتعاد عن "الخطر" الذي تصنعه كابول لأبنائها: "هذا لن يُغيّر مشاعري إزاء بلدي، لكنّ هذا لم يعد بلدي بعد الآن. إنه ساحة معركة من أجل المخدّرات والمافيا والمال. إنه بلدي، لكن بلدي متحوّل إلى ساحة معركة، وأنا غير راغبٍ في العيش في ساحة معركة". ولامار ـ الذي يُقرِّر مغادرة بلده إلى تركيا بهدف الزواج والاستقرار ـ يقول لبيرد: "أول شيء في ديانتي يطلب منّي أن أكون آمنًا. حياتك تأتي أولًا".



هذا غير موجود في "76 دقيقة و15 ثانية مع عباس كياروستامي". كأنّ المعنى المبطّن كامنٌ في كون السينما بلدًا، وفي أن بلدًا كهذا يمنح المنتمي إليه أمانًا ورفاهية قول وبوح ومواجهة وتحدّ. وإذْ تواجه كاميرا ترافيس بيرد مخاطر العيش في بلدٍ غير آمن، فإن كاميرا سيف الله صمديان تصنع أمانًا عبر مواكبة فنانٍ يبتكر أشياءه الحميمة المستلّة من واقع وحكايات ومسارات.
المساهمون