ذات مساءٍ من مساءات صنعاء الهادئة، ذات أحدٍ يُطِلُّ على غروبه المُتثاقل، وذات ذاكرة ترتّبُ من الأسماء، ما يفيض على المعنى، كان مطرٌ خفيف ينحدر من عليائه، ويدثّ باستحياء على كتفيَّ المُنهكين بعبء أملٍ يائسٍ. وكان عليَّ، على ما يبدو، أنا القادم من خفة الموت وسرديته، أن أحملَ خُطاي المُتثاقلة من "السكن الجامعي" إلى "بريد معين"، في الطريق الذي ألفته النفس، وتآلف معها، عشرين أو يزيد، أهيئ نفسي، لرتلٍ من جحافل العزاء، القادمة "كجياد النار" من الشمال السوريّ، المُتعب والأسيان، بل من أقصى شماله وشماله الشرقي، حيث معصوبو الرؤوس يجتاحون حقول القمح النامي بحياء، بنار الضغينة والسوء، وحيث الأهلون موزعون، شورى، على أعدائهم، وهم، من كان في الحميّة نفسها، وعنهم في ذلك قول فصيح. هناك، حيث الموت محض صدفة، أو محض نزوة، أو محض "يقين"، وحيث اللغة العاثرة تأتيك بالأخبار مرتبكة، معادية، تتعثر تفاصيلها بالدم، وتتستر حقائقها بالتورية والتغميض.
في مثل هذه الحال، حال السوريّ (في الهوية: العربي السوري!) الذي يتعثر بأشقائه، حال الذي لا يقبل "الدماثة القوميّة الفائضة"، ولا "التدخل الأخوي الشقيق". في هذا المساء الصنعاني المُثقل بنفسه، جاءني صوته أجش، متهدجاً، خشناً في لحظة بوح هبلاء، وهو المحسوب – على ما أظن – على حاسدي "الدرجة الممتازة"، أو المُرشحين الدائمين للوصول إلى منافعها أو فضائلها، المُتسترين على النيّة المُبيّتة بدماثة اللفظ، وتغييب المآل! هو من يعرف، بأنني في كُلِّ وقت، من مثل هذا الوقت، وفي كُلِّ يوم من مثل هذا اليوم أكون ذاهباً، إلى حيث الشيخ/ الفتى، في "مقيله" الأليف.
- (هيه.. ما هوْ.. هَو صاحبكمْ خلا شيْ). وأردفَ بفصاحةٍ مُفتعلة: - لقد حصد كُلّ شيء.
ودون أن أدرك، كان عليَّ أن أستدرك. (يستاهل) قلت، دون أن أعي تماماً، ما ترمي إليه رنة الصوت الجانب المكسور، أتوارى خلف غفلتي بالخبر، بأن جائزة أخرى أدركت الرجل واستدركته، ولم تتأخر كثيراً عن اللحاق بأخواتها الكثيرات، بدءاً من اللوتس (جائزة اتحاد كتاب آسيا وأفريقيا)، وليست نهاية بجائزة سلطان العويس، وكأنني على يقين راسخ أن ما يُعاني منه هذا العابر وما يعنيه، أن رجلاً من (بلاد السعيدة)، أو من (بلاد القات)، كما يشير أحياناً هو، آسفاً، إلى نفسه، قَدْ تَقَلّد وشاحاً آخر من التقدير يستحقه، وأن (صاحبكم) هذه، لا تعني غير عبد العزيز المقالح، رجلاً يفتح الأبواب الكبيرة، بمفاتيح صغيرة.
يمنيٌ بإطلاق، وعربيٌ بإطلاق، وإنسانيٌ في الحالتين، صفات تأخذ قيمتها في زمن انغلاق "الأقطار" على جزعها، وأمراضها، ومِللها، وطوائفها، وعوائلها "المُصطفاة"، ومُنظّريها "الجهابذة". رجل المواقع والمواقف، الأولى ممالك زائلة بحكم اليقين، والثانية تسيَّدتْ على يديه صفات تقترب وتستقر، حتى صارت إلى ثبات: الشاعر أولاً، والباحث في الشعر ثانياً، ورجل الفكر والسياسة وتاريخ الأفكار، عَرَّفَ العرب بالجهد الثقافي اليمني، وعَرَّفَ اليمانيين بجهود أقرانهم في أرض العرب، في سعي "لتلاقي الأطراف". هل اُسمي جهوده الأصيلة والمؤصلة في هذه الأبواب؟ وقد اقتربتْ من الخمسين كتاباً أو تكاد.
عرفته قبل أكثر من أربعين عاماً، فتى يترصّد الشعر في أرض العرب، عبر مرثية عن سيف بن ذي يزن، القصيدة التي نشرها في مجلة "الآداب" ذات الصيت، ومُذ ذاك والذاكرة التي لم يتعبها الوهن، تستحضره في أكثر من موقف وموقع، نافذة من نوافذ اليمن "السعيد" بإذن الله.
وبعد ذلك، وقبل أكثر من عشرين عاماً، جئتُ صنعاء اختياراً، لأن نعمة تقاطع الدروب لسوريٍّ مثلي، كانت وفيرة آنذاك، لم تسدها حواجز الوحل، ولا روح "القطرنة الغاشية"، وبعد أن مرّت السنون، عدت صنعاء اضطراراً، وبين الزمنين: زمن اليفاعة الجسورة، وزمن الرخاوة المُبكرة؛ زمن الضائقة وزمن المحن، ظَلَّ المقالح مُتكئاً وجدانياً، للذوات "الهاربة" من براثن الوقت وأظفاره، الوقت العربي الذي تمدّدَ واتسع سوءاً وسوءاً حتى لوَّثَ الروح، واستبدَّ بالبصر والبصيرة، حتى لكأنّ العماء صار بصيرة العرب، وصارت دمشق "مرثية الأسى"، شاحبة، حافية، تركضُ في حديقة الأنقاض، الحديقة التي صار الطير يهجر أشجارها، وصار الموت يُشرِّدُ أبناءها في شوارع الخُذلان والبرد، وفي صحاري الرمل والقيظ، وفي قلوب العرب الجافة كالآجر المشوي. يتحرشُ بهم الذلُّ والنذل، ويتدفأ بحرائقهم البرد ومصورو الأخبار في القنوات الفضائية، تنهشُ قلوبهم ذئاب الضغينة الضارية؛ وتضيق بهم، كلما ابتعدوا عن الموت، أطراف المدن الباردة.
دمشق صديقة الشعر والشعراء، صديقة عبد العزيز المقالح وموئل وجدانه، مثلها مثل صنعاء، وبغداد، والقاهرة، وطرابلس، المدن التي تُغلق أبوابها، الآن، قبل الأوان، وتنامُ على جزع يقود إلى جزعٍ وارتياب. دمشق المدينة التي حملت قلبها على يديها، وقدمتهُ كالخبز والماء لأهلها الضاربين أوتادهم في الأقطار والأمصار، دمشق التي يخش في ثيابها الأحناش، وقد حَذَّر منهم المقالح نفسه قبل أكثر من ربع قرن.
في كتاباته في الفترةِ الأخيرة: أسئلةٌ مُرَّة، مرارة الحنظل في الحلق، حادة كحدة الأسيد في الأصابع التي ترفع الاتهام. أسئلة تتسع وتتسع لتشمل أرضاً بأسلافها وأحفادها، بشراً يتعثرون بأنفسهم، وآخرين بأوجاعهم، وبعضهم بغيِّه؛ عميان يقودون عميان ليقعوا في بئر، كما يصف السيد المسيح. حاضرٌ مرتبكٌ مُربكٌ يُشوش الحواس، فأين الشعر من كُلِّ ذلك.
في شعر المقالح في الآونة الأخيرة: "هالوكٌ" يعرش على القلوب، مقبرةٌ واحدةٌ للجميع؛ للحمقى وللعقلاء، للسادر وابن اليقين، حتى لتبدو الأرض عربة محملة بالجثث، تابوت يتسع "للمنتصرين" والضحايا، إذ كان هناك من منتصرين حقاً، وهم الذين يذهبون إلى صلافتهم ليخسروا الرهان، واهمين بعدالة القتل.
الوقتُ شغوفٌ بالماكر، مشغولٌ بالمفكر الوطني، مسوغ الخِصاء، مشغول بالناقد الصيرفيّ، والشاعر الصيرفي والبواب، مشغول بالذين يتوسدون ضغائنهم "كالمتاكي" في مقيل اللغو، مشغول بناس الأصفاد والأصفار؛ بموزعي السكاكين والأظلاف والمخالب المسمومة، بلغة الهتاف التي تستدير على نفسها كحدوة الحصان. وأنت مشغول بالوردة في ذبولها، بالشعراء قادة الهذيان والحكمة المُستعجلة. مشغول بالسوريين يدقون باب الأهل المُغلق بالشمع الأحمر. باليقين الذي يُسفِّهُ الوقت، ويبعد "الهدافين" عن أسراب الطيور، والمقاولين عن "حديقة الأحجار".
عبد العزيز المقالح، لن يسوءَنا أنك في اليقين وهم سادرون. شكراً لوجودك في هذه الحياة المضطربة.
في مثل هذه الحال، حال السوريّ (في الهوية: العربي السوري!) الذي يتعثر بأشقائه، حال الذي لا يقبل "الدماثة القوميّة الفائضة"، ولا "التدخل الأخوي الشقيق". في هذا المساء الصنعاني المُثقل بنفسه، جاءني صوته أجش، متهدجاً، خشناً في لحظة بوح هبلاء، وهو المحسوب – على ما أظن – على حاسدي "الدرجة الممتازة"، أو المُرشحين الدائمين للوصول إلى منافعها أو فضائلها، المُتسترين على النيّة المُبيّتة بدماثة اللفظ، وتغييب المآل! هو من يعرف، بأنني في كُلِّ وقت، من مثل هذا الوقت، وفي كُلِّ يوم من مثل هذا اليوم أكون ذاهباً، إلى حيث الشيخ/ الفتى، في "مقيله" الأليف.
- (هيه.. ما هوْ.. هَو صاحبكمْ خلا شيْ). وأردفَ بفصاحةٍ مُفتعلة: - لقد حصد كُلّ شيء.
ودون أن أدرك، كان عليَّ أن أستدرك. (يستاهل) قلت، دون أن أعي تماماً، ما ترمي إليه رنة الصوت الجانب المكسور، أتوارى خلف غفلتي بالخبر، بأن جائزة أخرى أدركت الرجل واستدركته، ولم تتأخر كثيراً عن اللحاق بأخواتها الكثيرات، بدءاً من اللوتس (جائزة اتحاد كتاب آسيا وأفريقيا)، وليست نهاية بجائزة سلطان العويس، وكأنني على يقين راسخ أن ما يُعاني منه هذا العابر وما يعنيه، أن رجلاً من (بلاد السعيدة)، أو من (بلاد القات)، كما يشير أحياناً هو، آسفاً، إلى نفسه، قَدْ تَقَلّد وشاحاً آخر من التقدير يستحقه، وأن (صاحبكم) هذه، لا تعني غير عبد العزيز المقالح، رجلاً يفتح الأبواب الكبيرة، بمفاتيح صغيرة.
يمنيٌ بإطلاق، وعربيٌ بإطلاق، وإنسانيٌ في الحالتين، صفات تأخذ قيمتها في زمن انغلاق "الأقطار" على جزعها، وأمراضها، ومِللها، وطوائفها، وعوائلها "المُصطفاة"، ومُنظّريها "الجهابذة". رجل المواقع والمواقف، الأولى ممالك زائلة بحكم اليقين، والثانية تسيَّدتْ على يديه صفات تقترب وتستقر، حتى صارت إلى ثبات: الشاعر أولاً، والباحث في الشعر ثانياً، ورجل الفكر والسياسة وتاريخ الأفكار، عَرَّفَ العرب بالجهد الثقافي اليمني، وعَرَّفَ اليمانيين بجهود أقرانهم في أرض العرب، في سعي "لتلاقي الأطراف". هل اُسمي جهوده الأصيلة والمؤصلة في هذه الأبواب؟ وقد اقتربتْ من الخمسين كتاباً أو تكاد.
عرفته قبل أكثر من أربعين عاماً، فتى يترصّد الشعر في أرض العرب، عبر مرثية عن سيف بن ذي يزن، القصيدة التي نشرها في مجلة "الآداب" ذات الصيت، ومُذ ذاك والذاكرة التي لم يتعبها الوهن، تستحضره في أكثر من موقف وموقع، نافذة من نوافذ اليمن "السعيد" بإذن الله.
وبعد ذلك، وقبل أكثر من عشرين عاماً، جئتُ صنعاء اختياراً، لأن نعمة تقاطع الدروب لسوريٍّ مثلي، كانت وفيرة آنذاك، لم تسدها حواجز الوحل، ولا روح "القطرنة الغاشية"، وبعد أن مرّت السنون، عدت صنعاء اضطراراً، وبين الزمنين: زمن اليفاعة الجسورة، وزمن الرخاوة المُبكرة؛ زمن الضائقة وزمن المحن، ظَلَّ المقالح مُتكئاً وجدانياً، للذوات "الهاربة" من براثن الوقت وأظفاره، الوقت العربي الذي تمدّدَ واتسع سوءاً وسوءاً حتى لوَّثَ الروح، واستبدَّ بالبصر والبصيرة، حتى لكأنّ العماء صار بصيرة العرب، وصارت دمشق "مرثية الأسى"، شاحبة، حافية، تركضُ في حديقة الأنقاض، الحديقة التي صار الطير يهجر أشجارها، وصار الموت يُشرِّدُ أبناءها في شوارع الخُذلان والبرد، وفي صحاري الرمل والقيظ، وفي قلوب العرب الجافة كالآجر المشوي. يتحرشُ بهم الذلُّ والنذل، ويتدفأ بحرائقهم البرد ومصورو الأخبار في القنوات الفضائية، تنهشُ قلوبهم ذئاب الضغينة الضارية؛ وتضيق بهم، كلما ابتعدوا عن الموت، أطراف المدن الباردة.
دمشق صديقة الشعر والشعراء، صديقة عبد العزيز المقالح وموئل وجدانه، مثلها مثل صنعاء، وبغداد، والقاهرة، وطرابلس، المدن التي تُغلق أبوابها، الآن، قبل الأوان، وتنامُ على جزع يقود إلى جزعٍ وارتياب. دمشق المدينة التي حملت قلبها على يديها، وقدمتهُ كالخبز والماء لأهلها الضاربين أوتادهم في الأقطار والأمصار، دمشق التي يخش في ثيابها الأحناش، وقد حَذَّر منهم المقالح نفسه قبل أكثر من ربع قرن.
في كتاباته في الفترةِ الأخيرة: أسئلةٌ مُرَّة، مرارة الحنظل في الحلق، حادة كحدة الأسيد في الأصابع التي ترفع الاتهام. أسئلة تتسع وتتسع لتشمل أرضاً بأسلافها وأحفادها، بشراً يتعثرون بأنفسهم، وآخرين بأوجاعهم، وبعضهم بغيِّه؛ عميان يقودون عميان ليقعوا في بئر، كما يصف السيد المسيح. حاضرٌ مرتبكٌ مُربكٌ يُشوش الحواس، فأين الشعر من كُلِّ ذلك.
في شعر المقالح في الآونة الأخيرة: "هالوكٌ" يعرش على القلوب، مقبرةٌ واحدةٌ للجميع؛ للحمقى وللعقلاء، للسادر وابن اليقين، حتى لتبدو الأرض عربة محملة بالجثث، تابوت يتسع "للمنتصرين" والضحايا، إذ كان هناك من منتصرين حقاً، وهم الذين يذهبون إلى صلافتهم ليخسروا الرهان، واهمين بعدالة القتل.
الوقتُ شغوفٌ بالماكر، مشغولٌ بالمفكر الوطني، مسوغ الخِصاء، مشغول بالناقد الصيرفيّ، والشاعر الصيرفي والبواب، مشغول بالذين يتوسدون ضغائنهم "كالمتاكي" في مقيل اللغو، مشغول بناس الأصفاد والأصفار؛ بموزعي السكاكين والأظلاف والمخالب المسمومة، بلغة الهتاف التي تستدير على نفسها كحدوة الحصان. وأنت مشغول بالوردة في ذبولها، بالشعراء قادة الهذيان والحكمة المُستعجلة. مشغول بالسوريين يدقون باب الأهل المُغلق بالشمع الأحمر. باليقين الذي يُسفِّهُ الوقت، ويبعد "الهدافين" عن أسراب الطيور، والمقاولين عن "حديقة الأحجار".
عبد العزيز المقالح، لن يسوءَنا أنك في اليقين وهم سادرون. شكراً لوجودك في هذه الحياة المضطربة.