31 أكتوبر 2024
والدة البلتاجي ووالدة سيد قطب
والدة محمد البلتاجي في قاعة المحكمة على كرسي متحرك في سنة 2016، ولو كانت تسمح محاكم جمال عبد الناصر في سنة 1966، لرأينا سيدةً من صعيد مصر، في الثمانين أو أكثر أو أقل، زوجة وجيه عائلةٍ من قرى أسيوط (قرية موشا) تراقب ابنها وهو في القفص. ما بين سنة 2016 وسنة 1966 خمسون سنة تغيرّت المجتمعات العربية ومحاكمها وأقفاصها، والميديا انتشرت، فرأينا أم البلتاجي، بعد ثلاث سنواتٍ، ترى ابنها أول مرة وهي على كرسي متحرّك، وأمام القضاء والعالم، والبلتاجي يقبّل رأسها ويديها، بعيداً عن زجاج القفص. بعدها بدقائق، طارت صور أم البلتاجي في الإنترنت في القارات السبع، وإذا بالرجل الذي خطفوا من فوق لسانه كلمتين، وهو في حصار ميدان رابعة العدوية الذي ماتت فيه ابنته، يصير ابناً حنوناً جداً في الصور.
خمسون سنة من الحضارة والمعرفة والتقنية جعلتنا نرى الجانب الذي طمسوه في وجه البلتاجي. رجل حاصل على الدكتوراه في الطب، وعصيّ في الحقّ لا يلين أمام أي تهديد، ويحنو على أمه من فرط الخلق والتربية ويقبّل رأسها، والضباط من حوله في شبه ذهول وأسفٍ على رجل صدّروا له كراهيةً تكفي لشق جبل. قتلوا ابنته، وحبسوا ولديه، وطفّشوا زوجته خارج البلاد، وحرقوا مستشفاه وعيادته، وحكموا عليه بالسنوات الطوال. وعلى الرغم من ذلك، فاجأ العالم والكاميرا بهذه الإنسانية المفرطة، بينما احتفظت الكاميرا، في 1966، بتكشيرة صورة سيد قطب، وجهامتها وألمها، من دون أن نرى أمه في ثوبها تنظر إليه، ولو حتى من بعيد.
خمسون سنة انتصرت التقنية على غلظة السجّان وتدابيره، بينما استطاعت الكاميرا في 2016 أن تدخل إلى إنسانية المسجون، وتعلن للناس أن وسط هذه المظالم "قلوب وألفة وناس حقيقيون يعرفون تربية الأمهات".
يخسر الديكتاتور كل يوم من خمسين سنة، يخسر وهو مختبئ في قصره، أو سجنه، يخسر بالفضيحة أمام الكاميرا كل يوم، يخسر من دون أن تهمه الفضيحة، لأنه غداً سيفتتح كوبري أو مكتب بريد. يخسر ورجل على مشارف التسعين، وهو المرشد السابق، يقف في القفص، ويتساند على عسكري، يخسر والناس ترى أم البلتاجي، وهي تقف وتحضن ابنها، يخسر وأسماء ابنته تحتضر. يخسر والنيران مشتعلةٌ في مسجد رابعة، والجثث في بياضها تنتظر أهلها برائحة الدماء.
يخسر الديكتاتور، ولكنه لا يفهم. يفهم فقط أن الرصاصة تقتل، وأن المشنقة تريحه، لكي يحكم سنة أو سنتين أو أكثر، ولو صحّ ذلك، لما أفرخت كتب سيد قطب آلاف الشهداء والقتلى والمغدورين، من الشيخ محمد الذهبي إلى أسماء البلتاجي إلى مئات الضباط والجنود.
هل وعى الدكتاتور الدرس، أم ما زال يختبئ في قصره، ويصدر الأوامر للقضاة، لكي يصدروا أوامر الشنق؟ خمسون سنة وما تعلم الجنرال، أو الديكتاتور العربي، الدرس أبداً. خُلع حسني مبارك وعلي عبد الله صالح وقتل أنور السادات ومعمر القذافي، ومازال الدكتاتور لا يقرأ التاريخ، فقط يصدر الأمر للضابط والقاضي، وحبل المشنقة معدّ.
يشنق المشنوق صباحاً، ويفرخ الآلاف بعد مدة، من شكري مصطفى إلى التكفيريين إلى "داعش" إلى آخره. خمسون سنة مرّت، والحاكم كما هو. يريدها الحاكم له، وبشهادة المصحف (الدنيا) أمداً طويلاً طويلاً، والمحكوم بالمصحف أيضا يحاول أن يكون صالحاً. من أيام كان الكاتب الطاهر بن جلون يقول: أخطأ عبد الناصر في شنق سيد قطب.
نعم، أفرخ العنف، بعد خمسين سنة، في وطننا العربي آلاف العناقيد من العنف المضاد، والخريطة ظاهرة للعيان في كل بلد من اليمن إلى سورية إلى ليبيا إلى العراق إلى مصر. والغريب أنهم في مصر يقولون: "احمدوا ربنا إحنا مش زي البلاد اللي حوالينا".
هل لو عادت الأيام بعبد الناصر، كان سيقدم على شنق سيد قطب، وهل لو عاد الأمر بالسيسي الذي يقول من أيام: "نفسي أعملكوا حاجات حلوة"، ثم يدخل في نوبة دموع تمثيليةٍ تذكّرني بدموع العندليب في فيلم الخطايا، هل لو عادت به الأيام مرة ثانية إلى 30/ 6 كان قد أقدم على قتل أسماء البلتاجي؟ ها هي جدّتها أمامك، وكأنها تقول: نعم، لم تتمكن أم سيد قطب من أن تحتضنه قبل شنقه، ولكن ها أنا قد أتيت إلى المحكمة، كي أكون بديلاً عنها، ويراني العالم كله، كي أحتضن ابني البلتاجي الذي لم يسرق من خزينة الدولة شيئاً. وكي أقول لأم سيد، إن الأيام شاهدةٌ ودامغةٌ على من أخطأ، فالدماء تزيد العداوة في القلوب بين الناس، حتى وإن صكّ شعبان أحكامها في رجب، أو حتى في شوّال.
خمسون سنة من الحضارة والمعرفة والتقنية جعلتنا نرى الجانب الذي طمسوه في وجه البلتاجي. رجل حاصل على الدكتوراه في الطب، وعصيّ في الحقّ لا يلين أمام أي تهديد، ويحنو على أمه من فرط الخلق والتربية ويقبّل رأسها، والضباط من حوله في شبه ذهول وأسفٍ على رجل صدّروا له كراهيةً تكفي لشق جبل. قتلوا ابنته، وحبسوا ولديه، وطفّشوا زوجته خارج البلاد، وحرقوا مستشفاه وعيادته، وحكموا عليه بالسنوات الطوال. وعلى الرغم من ذلك، فاجأ العالم والكاميرا بهذه الإنسانية المفرطة، بينما احتفظت الكاميرا، في 1966، بتكشيرة صورة سيد قطب، وجهامتها وألمها، من دون أن نرى أمه في ثوبها تنظر إليه، ولو حتى من بعيد.
خمسون سنة انتصرت التقنية على غلظة السجّان وتدابيره، بينما استطاعت الكاميرا في 2016 أن تدخل إلى إنسانية المسجون، وتعلن للناس أن وسط هذه المظالم "قلوب وألفة وناس حقيقيون يعرفون تربية الأمهات".
يخسر الديكتاتور كل يوم من خمسين سنة، يخسر وهو مختبئ في قصره، أو سجنه، يخسر بالفضيحة أمام الكاميرا كل يوم، يخسر من دون أن تهمه الفضيحة، لأنه غداً سيفتتح كوبري أو مكتب بريد. يخسر ورجل على مشارف التسعين، وهو المرشد السابق، يقف في القفص، ويتساند على عسكري، يخسر والناس ترى أم البلتاجي، وهي تقف وتحضن ابنها، يخسر وأسماء ابنته تحتضر. يخسر والنيران مشتعلةٌ في مسجد رابعة، والجثث في بياضها تنتظر أهلها برائحة الدماء.
يخسر الديكتاتور، ولكنه لا يفهم. يفهم فقط أن الرصاصة تقتل، وأن المشنقة تريحه، لكي يحكم سنة أو سنتين أو أكثر، ولو صحّ ذلك، لما أفرخت كتب سيد قطب آلاف الشهداء والقتلى والمغدورين، من الشيخ محمد الذهبي إلى أسماء البلتاجي إلى مئات الضباط والجنود.
هل وعى الدكتاتور الدرس، أم ما زال يختبئ في قصره، ويصدر الأوامر للقضاة، لكي يصدروا أوامر الشنق؟ خمسون سنة وما تعلم الجنرال، أو الديكتاتور العربي، الدرس أبداً. خُلع حسني مبارك وعلي عبد الله صالح وقتل أنور السادات ومعمر القذافي، ومازال الدكتاتور لا يقرأ التاريخ، فقط يصدر الأمر للضابط والقاضي، وحبل المشنقة معدّ.
يشنق المشنوق صباحاً، ويفرخ الآلاف بعد مدة، من شكري مصطفى إلى التكفيريين إلى "داعش" إلى آخره. خمسون سنة مرّت، والحاكم كما هو. يريدها الحاكم له، وبشهادة المصحف (الدنيا) أمداً طويلاً طويلاً، والمحكوم بالمصحف أيضا يحاول أن يكون صالحاً. من أيام كان الكاتب الطاهر بن جلون يقول: أخطأ عبد الناصر في شنق سيد قطب.
نعم، أفرخ العنف، بعد خمسين سنة، في وطننا العربي آلاف العناقيد من العنف المضاد، والخريطة ظاهرة للعيان في كل بلد من اليمن إلى سورية إلى ليبيا إلى العراق إلى مصر. والغريب أنهم في مصر يقولون: "احمدوا ربنا إحنا مش زي البلاد اللي حوالينا".
هل لو عادت الأيام بعبد الناصر، كان سيقدم على شنق سيد قطب، وهل لو عاد الأمر بالسيسي الذي يقول من أيام: "نفسي أعملكوا حاجات حلوة"، ثم يدخل في نوبة دموع تمثيليةٍ تذكّرني بدموع العندليب في فيلم الخطايا، هل لو عادت به الأيام مرة ثانية إلى 30/ 6 كان قد أقدم على قتل أسماء البلتاجي؟ ها هي جدّتها أمامك، وكأنها تقول: نعم، لم تتمكن أم سيد قطب من أن تحتضنه قبل شنقه، ولكن ها أنا قد أتيت إلى المحكمة، كي أكون بديلاً عنها، ويراني العالم كله، كي أحتضن ابني البلتاجي الذي لم يسرق من خزينة الدولة شيئاً. وكي أقول لأم سيد، إن الأيام شاهدةٌ ودامغةٌ على من أخطأ، فالدماء تزيد العداوة في القلوب بين الناس، حتى وإن صكّ شعبان أحكامها في رجب، أو حتى في شوّال.