صعّدت كل من إدارة ترامب وكوريا الشمالية من لغة التحدّي، وتمادى كلاهما في التلويح باستخدام القوة، إذ حشر خطاب التهويل والتلويح بعدم التراجع كلاً منهما في الزاوية. ووضع الجانبان الوضع على المحك، بصورة غير مسبوقة. فما بدا أنه ابتزاز متبادل تحوّل إلى خطر مواجهة، لو انفجرت، تتقزّم معها الحرب الكورية في أوائل خمسينيات القرن الماضي، بحيث تبدو أهوالها كمباراة ملاكمة مقارنة بها.
وما يفاقم من خطورة الوضع أن ضيق الوقت لا يسمح بفسحة لالتقاط الأنفاس وابتكار المخارج التي تعفي من المصادمة، الأمر الذي رفع القضية إلى مستوى مشروع أزمة طاحنة قد تقلب المعادلات في الشرق الأقصى والعالم.
الخشية حقيقية، إلى حدّ أنها دفعت مسؤولين سابقين إلى درجة التنبيه بطريقة دق جرس الإنذار والدعوة إلى تخفيف اللهجة قبل فوات الآوان، إذ يقول النائب السابق لمدير "سي أي أيه" مايكل موريلز: "لا لزوم لإعطاء الرئيس الكوري كل هذه الأهمية بدلاً من الاكتفاء بالتعاطي معه بالاحتواء والردع"، ذات التنبيه كرّره مساء أمس وزير الدفاع السابق، ليون بانيتا، والذي شدد على فعالية الاحتواء ونجاحه في التعامل مع الاتحاد السوفياتي أثناء الحرب الباردة.
مثل هذه الكلام التحذيري من جانب مسؤولين مطلعين على حقائق الأمور ومخاطرها، يعزز المخاوف بأن الأزمة قد تخرج عن نطاق السيطرة.
اعتزام الزعيم الكوري الشمالي إجراء تفجير نووي "كبير" يوم السبت الجاري بمناسبة الذكرى 105 لولادة جدّه المؤسس كيم أيل سونغ، وضع الرئيس ترامب أمام اختبار جديد ومن العيار الثقيل، وزاد من التحدّي أن كيم جونغ، هدد بحرب مدمرة لو قامت الولايات المتحدة بعمل عسكري ضد نظامه.
الرئيس ترامب تعامل مع هذا التطور الذي يشكل المزيد من الإرباك لرئاسته، على خطين، فمن جهة استعان بالرئيس الصيني لمساعدته على تجاوز الأزمة، على أساس أن بكين لها "مونة على جارتها" باعتبارها نافذتها الرئيسية إلى العالم والشريان الذي يمدها بأسباب البقاء والاستمرار. وفي الوقت ذاته تعهّد ترامب بالتصدي لهذا التحدي منفرداً لو فشلت وساطة نظيره الصيني.
ازداد القلق في واشنطن، لأن الإشارات الأولية من بكين غير مشجعة، وساطتها قد لا تثمر، كما فهمت الإدارة من الرئيس الصيني، شي جين بينغ، عندما أجرى مباحثات مع الرئيس ترامب في فلوريدا الأسبوع الماضي.
ويقول البيت الأبيض إنه يتفهّم العوائق ذات الجذور "التاريخية"، في طريق الوساطة الصينية مع جارتها كوريا الشمالية، ثم صدرت إشارات صينية أخرى تعزز هذا القلق، حين ألغت الجهات المعنية رحلات الطيران من بكين إلى بيونغ يانغ ابتداء من يوم الإثنين المقبل. ثم تبع ذلك تصريح رسمي يحذر من الانفجار "الذي لن يكون فيه رابح". وأعربت كوريا الجنوبية عن تخوفها من احتمال أن تقوم واشنطن بالرد على التفجير النووي حال وقوعه، من دون التشاور معها.
الأمر الذي حمل البيت الأبيض على تكليف نائب الرئيس، مايك بنس، بالسفر إلى كوريا الجنوبية للتشاور مع حكومتها بعد غد الأحد، على الرغم من حلول عيد الفصح في نفس اليوم.
يحصل كل ذلك على خلفية من شقين: الحشد العسكري البحري قرابة المياه الكورية، والذي كان الرئيس ترامب قد أوعز قبل أيام بوجوده في المنطقة، وثانياً أن البيت الأبيض أقدم في غضون الأيام القليلة الماضية على توجيه ضربتين نوعيتين في الخارج: قصف قاعدة الشعيرات السورية بالصواريخ واستخدامه لأول مرة "أم القنابل" في أفغانستان، والتي تأتي بعد القنبلة النووية من حيث القوة التدميرية.
بعد هذه الضربات غير الاعتيادية، صار الرئيس ترامب وكأنه ألزم نفسه بتنفيذ تهديده ضد التجربة النووية الكورية، لحفظ ماء الوجه وحماية صدقيته. خاصة أن النظام الكوري لا يخفي عزمه على تحقيق إنجاز صاروخي عابر ومزود بالنووي، يصل إلى الشواطئ الأميركية الغربية.
النظام الكوري الشمالي صانع أزمات، والرئيس ترامب تورّط بالتهديد وبصيغة جعلت من الصعب عليه التراجع عنه، ما لم يتم اجتراح مخرج، صيني على الأرجح، في آخر لحظة؛ فإن لعبة العض على الأصابع قد تتحوّل إلى لعبة خطيرة تنتهي بتقطيع الأصابع. وهو خطر تخيم غيومه الآن على واشنطن.