واشنطن وحرب جديدة في العراق
أمر الرئيس الأميركي، باراك أوباما، في الثاني من سبتمبر/ أيلول الجاري، بإرسال 350 جندياً إضافياً إلى بغداد، لحماية المنشآت الدبلوماسية الأميركية والموظفين العاملين فيها، ليرتفع عدد العسكريين الذين أرسلوا، منذ 15 يونيو/ حزيران الماضي، إلى العراق، لتعزيز أمن المقرات الدبلوماسية الأميركية، إلى نحو 820 جندياً.
وفي بغداد، أعلنَ رئيس مكتب التعاون الأمني في الجيش الأميركي لدى العراق، الجنرال مايكل بدناريك، عن دخول طائرات إف 16 إلى الخدمة في العراق، في الأشهر الأربعة المقبلة، كما أعلنت السفارة الأميركية في بغداد عن أن بلادها سلمت شحنةً جديدةً من الأسلحة والمعدات العسكرية إلى العراق، تعويضاً عمّا فقده الجيش العراقي في أثناء انسحابه من الموصل وتكريت، ومن بين هذه الأسلحة دبابات من نوع M1 أبرامز وشاحنات لنقل المعدات ورشاشات خفيفة. وأكد بدناريك، في لقائه وسائل إعلام عراقية، على أن الولايات المتحدة ملتزمة بدعم العراق، مهما طالت أزمته، وبحسب الاتفاقية الاستراتيجية المبرمة بين البلدين. ولفت إلى أن الدور الأميركي يشمل، إضافة إلى القيام بضربات جوية مساندة للقوات العراقية وقوات البشمركة والميليشيات، مراقبة الأوضاع في المناطق التي توجد فيها "داعش"، وتلك التي يجري تحريرها من قبضتهم. لكن الجنرال قال، أيضاً، "لا حاجة لوجود قوات أميركية على الأرض، ونحن ملتزمون بدعم العراق لوجستياً وتدريباً"، وهو ما دحضه أوباما في الليلة نفسها، عندما قرر إرسال العسكريين الـ350.
ومع أخبار تحقيق انتصارات في مدن معينة، في شمال العراق وشرقه، تؤكد القيادات العسكرية الأميركية على صعوبة الأوضاع الأمنية في أجزاء كثيرة من المحافظات السنية، مثل الأنبار وصلاح الدين ونينوى وديالى، وذلك لتشابك البنادق بين الفصائل المنتفضة على حكومة المركز، بسبب المطالب الشرعية لأبناء هذه المحافظات، وبين بنادق الدولة الإسلامية، "داعش"، التي حققت، في فترة وجيزة وقياسية، ما لم تستطعه أي قوة أخرى في العراق، وأوقفت، بشكل ملحوظ، هستيريا التفرّد في حكم العراق التي قادها رئيس الوزراء المنتهية ولايته، نوري المالكي، وبعض القوى والأحزاب والميليشيات الشيعية المتطرفة لأكثر من ثماني سنوات، وأجبرت، وفق مفهوم توازنات القوة على الأرض، العالم على الالتفات إلى أصوات المهمّشين في هذا البلد، ومن ثم الضغط باتجاه التغيير، وهو ما ينتظره العالم والعراقيون بشغف من رئيس الوزراء المكلّف، حيدر العبادي.
وتبيّن ملاحظة تحليلية أن قيادة "الدولة الإسلامية" وضعت رؤيةً مفصّلة لمتطلّبات معاركها في العراق، وحدّدت بدقة الأطراف التي ستجري محاربتها، وتلك التي يجب أن تحيَّد، وكانت الولايات المتحدة من القوى التي رشح التنظيم تحييدها، لقناعته بأن واشنطن أفرغت يديها من نوري المالكي، وأَيقنت تماماً "مكره" في التعامل معها لحساب طهران، ثم تطور قدرات الأخيرة على حساب حلفائها في المنطقة، من دول الخليج العربي وإسرائيل وحتى تركيا، ناهيك عن موضوع المفاعلات النووية التي تعلم واشنطن بعدم جدية إيران في التخلي عنها تحت أي ظرف. وفعلاً لم تتدخل الولايات المتحدة، عندما قامت العشائر العراقية وثوار التشكيلات المرتبطة بقوى دينية وسياسية عراقية وتنظيم الدولة الإسلامية بحراكهم العسكري الحاسم والسريع، وإسقاط محافظات رئيسية، مثل صلاح الدين ونينوى ومعظم مناطق الأنبار ومحافظة التأميم والكثير من مدن وقصبات محافظة ديالى وأطراف بغداد، لا بل لم تحرك واشنطن ساكناً، وهي ترى هذه القوى تضع يدها على ترسانة كبيرة من الأسلحة والمعدات الأميركية وغير الأميركية في مخازن الجيش العراقي في الموصل وتكريت، وكان بإمكانها على أقل تقدير قصف هذه المخازن، لخطورة وقوعها بأيدٍ غير محددة، قد تستغلها في ما لا تحمد عقباه.
كان العالم ينتظر، في أي لحظة، وهو يتابع أخبار الحراك في العراق، نبأ دخول "الثوار" إلى العاصمة العراقية بغداد، وحتى أهالي العاصمة كانوا يتوقعون ذلك، إضافة إلى المالكي والميليشيات الشيعية المختلفة. كانت مسألة وقت، "ووقت محسوم"، حتى حدث ما لم يكن متوقعاً، فقد انحرفت بوصلة وبنادق مقاتلي "داعش" صوب سد الموصل، ثم باتجاه أربيل، بعدما قام قادة كردستان العراق بحركة أرادوا منها تحقيق ما لم يستطيعوا تحقيقه في الفترة الماضية، سياسياً وعسكرياً، فأصبحوا قاب قوسين أو أدنى من عاصمة الإقليم، وهي اللحظة الفاصلة التي غيّرت من سكون العالم وتحويله من حالة الانتظار لتغيير الأوضاع في العراق، إلى حالة الحشد باتجاه منع تنظيم الدولة الإسلامية من الوصول إلى أربيل، ثم دفعه باتجاه الموصل.
لقد شجعت نتائج الضربات الجوية الأميركية على مناطق وجود تنظيم "داعش"، على تقديم مزيد من الدعم للأكراد، ثم للحكومة المركزية، بعدما جرى تكليف العبادي برئاستها، فاستمرت بضرباتها الجوية على مناطق مختلفة من العراق. وتجاوزت الطلعات والضربات الجوية حدود "حماية جهود الإغاثة"، التي تعلّل بها الرئيس الأميركي، لتكون جزءاً رئيساً من عمليات عسكرية كبيرة، تشارك فيها، إضافة إلى القوات العراقية والكردية، أعداد كبيرة من ميليشيات شيعية متطرفة. وهذا كله، بالطبع، يتقاطع ووجهة نظر القائد السابق لقوات التحالف في العراق، ديفيد بترايوس، الذي رأى أن "هناك خطراً كبيراً ستواجهه أميركا، في حال انحيازها لأحد طرفي النزاع الطائفي الذي لم يُحلّ منذ أجيال عديدة"، والأهم قوله إن "الولايات المتحدة لا يجب أن تصبح قوة جوية للميليشيات الشيعية"، مضيفاً: "إن الطريقة الوحيدة التي يمكن أن تتدخل بها الولايات المتحدة، من دون زعزعة استقرار العراق، تكون في حال وجود حكومة عادلة وممثلة لجميع العراقيين".
وبعدما كسر الرئيس أوباما حاجز الصمت، وقرر إرسال قوات إلى العراق، إضافة إلى قيام طائراته الحربية بضربات على قوات التنظيم في جبل سنجار وسد الموصل وجلولاء وتكريت وآمرلي وغيرها، فإن قيادة هذا التنظيم بدأت مرحلة جديدة، تتمثل بممارسة الضغوط على الإدارة الأميركية باتجاهين: الأول لدفعها نحو التزام الحياد في المعارك القائمة في العراق بينه وبين القوى الحكومية، في مقابل تأمين مقارها الدبلوماسية ومصالحها في هذا البلد. والثاني، لتحفيزها تحت ضغط الإعلام والرأي العام الأميركي، من أجل الدفع بمزيد من القوات، وبالتالي، استدراجها إلى حربٍ جديدة، لا تملك الولايات المتحدة حالياً القدرة على خوضها منفردة بأي حال، ومن هنا، جاء قرار التنظيم تنفيذ عملية إعدام الصحافيين، جيمس فولي وستيفن سوتلوف، بطريقة أثارت ردود أفعال عنيفة شعبياً ورسمياً في معظم الدول الغربية، وخصوصاً في واشنطن ولندن وباريس.
إن تنظيم الدولة الإسلامية إما أنه لا يفقه في علوم الحرب وإدارة الصراع شيئاً، أو أنه يمتلك مهارات وإمكانيات كبيرة جداً على مستوى القيادة والسيطرة والتعبئة ونُظُم الاتصال والتمويل، مكّنته من بسط نفوذه حتى على القوى التي شاركت في تحقيق المكاسب على الأرض منذ العاشر من يونيو/ حزيران 2014، ثم مكّنته، على الرغم من كل القوى التي تحاربه، وهي عالمية وإقليمية ومحلية، من أن يحيط العاصمة العراقية بغداد من ثلاث جهات، ويسعى إلى تطويقها من جهتها الرابعة (محافظة ديالى) التي تضع إيران ثقلها للحفاظ عليها. فأما ما يفنّد الاحتمال الأول، فهو ما قاله قال النائب الجمهوري البارز، جون ماكين، الذي وصف تنظيم الدولة الإسلامية بأنه أقوى وأغنى تنظيم إرهابي على وجه الأرض، وقال، بشيء من السخرية، متندّراً بالحالة الحرجة التي يعانيها أوباما: "يبدو أن الرئيس في حالة صدمة، أو في حالة إنكار. لست متأكداً من وضعه"، والحقيقة أن أوباما فعلاً يعاني من محنة حقيقية في طبيعة القرارات التي يجب أن يتخذها. ففي وقتٍ يضغط عليه "داعش" باتجاه الاستدراج أو العزوف عن حربٍ جديدة في العراق، نراه يقول، مثلاً: "هدف أميركا هو التأكد من أن داعش لن يشكل خطراً على المنطقة. يمكننا تحقيق ذلك، لكن الأمر سيستغرق بعض الوقت"؛ وفي هذا الوصف "مطاطية" كبيرة لا يمكن التكهن بها بتاتاً.
كان قرار إرسال جنود إضافيين إلى بغداد لافتاً لمَن يراقب الأوضاع هناك، فقد صدر والقوات العراقية والميليشيات التابعة لها، وكذلك القوات الكردية، تحقّق، بإسنادٍ جوي أميركي كثيف، انتصارات على تنظيم الدولة الإسلامية، ما يعني إبعاد الخطر عن العاصمة وبقية المدن الرئيسة في العراق. لكن، في حقيقة الأمر، الأمور تختلف تماماً، فالولايات المتحدة تتوقع، الآن، أكثر من أي وقت مضى، إمكانية أقتحام قوات تنظيم "داعش" العاصمة العراقية بشكل مفاجئ، مستفيدة من خطط استدراج، تعمّدتها قيادة التنظيم لسحب كل القطعات التي سعى المالكي إلى تجميعها في بغداد، لحمايته من قوات الجيش المتبقية، وميليشيات "عصائب أهل الحق" وميليشيات مقتدى الصدر و"قوات بدر" (وكلها شيعية متطرفة)، ما يعني إمكانية حدوث اختراق من عدة جهات للعاصمة، لن تعارضه واشنطن، بقدر حرصها على حماية "منشآتها ومقارها الدبلوماسية ومواطنيها"، وعندها يمكن أن يستفيق العالم على حقائق جديدة، قد تغيّر صورة المنطقة تماماً، وربما العالم.