يبدو أن محاولة واشنطن مسك العصا من المنتصف في علاقتها مع حليفيها التركي والكردي السوري قد انتهت صلاحيتها، وصارت ملزمة بالانتقال من التوازن إلى الاختيار بين الطرفين، أو على الأقل تغليب أحد طرفي هذه العلاقة على الآخر، ولو جزئياً.
وتؤشر التلميحات الرسمية التي صدرت في أعقاب الاجتماعات التركية – الأميركية على مدى يومين، أواخر الأسبوع الماضي في واشنطن، إلى أن إدارة دونالد ترامب بدأت "تميل" إلى التجاوب مع مطالب أنقرة في عفرين ومنبج، وهي استدارة كانت غير متوقعة بعد ارتفاع منسوب التوتر بين الحليفين، الذي كان سبق أن تردد بأن اجتماعات وزير الخارجية الأميركي، ريكس تيلرسون، والدفاع جيم ماتيس، ومستشار الأمن القومي الأميركي أتش آر ماكمستر، مع كبار المسؤولين الأتراك قبل أسبوعين في أنقرة وبروكسل؛ لم تفلح في كسر حدّته، وفي أعقابها جرى الاتفاق على إحالة الأزمة إلى "مجموعات عمل" لمواصلة البحث بشأنها.
في هذا الإطار، عقد وفد تركي لقاءات في مقر الخارجية الأميركية، يومي الخميس والجمعة الماضيين، مع فريق من المسؤولين في الوزارة برئاسة واس ميتشل، القائم بأعمال مساعد وزير الخارجية.
المستوى المتواضع لهذا الفريق ترك الانطباع بأن المباحثات لا تتعدّى شراء الوقت، لأن طريق الحل شبه مسدودة: لا تركيا عازمة على التزحزح، ولا واشنطن وارد تخليها عن الأكراد، وتعزّز هذا الاعتقاد حين تفادت الخارجية الأميركية الإعراب عن أي تفاؤل، واكتفت في اليوم الأول من الاجتماعات بالتعبير عن "الأمل" بالتوصل إلى صيغة لحلحلة المشكلة مع تركيا.
لكن التعقيبات الرسمية التي جرى تمريرها بعد الاجتماعات تفيد بأن المسألة انتهت إلى غير ذلك. فواشنطن أبدت قدراً من التجاوب الأولي مع إصرار الأتراك على وجوب إخراج القوات الكردية من المدينتين وإبعادها إلى شرق الفرات، وهو تحوّل مهم جاء في لحظة وصلت فيها العلاقات التركية الأميركية إلى مفترق طرق، وتبدّلت فيها الأولويات السورية بالنسبة إلى واشنطن.
أنقرة أدركت الوضع الجديد، ولعبت ورقتها بحزم مكّنها من الإمساك بزمام المبادرة، الأمر الذي وضع واشنطن أمام احتمالين: إما الاصطدام مع عضو في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، أو إيجاد تسوية.
من جهتها، تعرف تركيا أن واشنطن لم تفلح، من خلال فرض عقوبات على أنقرة، في تليين موقف الرئيس رجب طيب أردوغان وصرفه عن العمل بهذه المعادلة، خاصة أن الطرفين يدركان أن الترتيبات في سورية تغيرت: الحرب مع تنظيم "داعش" (الدويلة) انتهت. المواجهة معه تحولت إلى مطاردة وعمليات تعقّب وإمكانات استخباراتية لا تحتاج إلى قوات برية وازنة مثل القوات الكردية.
في الميزان الأميركي الجديد في سورية، صارت أولوية التركيز الأميركي الأساسي على ثلاثة أمور، كما جاء في خطاب تيلرسون في يناير/ كانون الثاني الماضي: "داعش" وإيران وموسكو.
الأول جاء ذكره لتبرير بقاء القوات الأميركية في سورية، كما لتسويغ التحالف مع القوات الكردية، فيما التركيز الفعلي على إيران وروسيا. ولا يستقيم ذلك بوجود حالة نزاع مع تركيا.
أنقرة تدرك، حسب أحد المراقبين، أن واشنطن عندما واجهت حالة مشابهة في العراق وقفت مع الدولة وأعطتها الضوء الأخضر لاستعادة كركوك، وقدّمت علاقتها مع رئيس الحكومة العراقية، حيدر العبادي، على علاقتها الوطيدة مع مسعود البارزاني في كردستان.
الأولوية آنذاك كانت لتحصين العبادي وتمتين علاقاته مع واشنطن، بحيث يؤدي ذلك إلى تخفيف النفوذ الإيراني على بغداد، وبالمقياس ذاته تتصرّف واشنطن من منطلق تخفيف، إن لم يكن تخريب، العلاقات المتنامية بين أنقرة وموسكو، وبما يعيد لعب السيناريو نفسه، وإن كان بصورة أخرى، بحيث يجري التخلي عن عفرين ومنبج بإخراج القوات الكردية منهما وبترتيب أميركي وفق معادلة "لا يموت الذئب ولا يفنى الغنم". يساعد واشنطن في ذلك أن الطرف الكردي لا يقوى على قطع الشعرة معها. فهي تدرك أنه لا خيار آخر له، تماماً كما كان خيار كردستان بعد كركوك.
وفي حال انتقل هذا السيناريو إلى التنفيذ، وفق ما تشير الأجواء، فهل تنتهي أزمة العلاقات التركية – الأميركية؟
الاعتقاد في واشنطن، وبما يشبه الإجماع، أن قضية عفرين ومنبج ليست سوى جزء بسيط من تعبيرات المأزق العميق الذي انتهت إليه العلاقات بين البلدين، وثمة من يقول بين تركيا والغرب عموماً.