واشنطن المنحازة لتل أبيب تواجه حلفاً إسرائيلياً ــ عربياً

28 يوليو 2014
كيري والعطية وداوود أوغلو في باريس (الأناضول)
+ الخط -

لعلها تكون السابقة التاريخية الأولى في سيّاق الصراع العربي ـــ الإسرائيلي، أنّ تتوحد مصر الرسمية مع إسرائيل، في الموقف ضد الولايات المتحدة، وهو ما تُرجم بمشاريع اتفاقات التهدئة المقترحة لإيقاف العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة.

فالفشل الذي واجهته، إلى الآن، جهود وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، نابعة بالدرجة الأولى من الرفض الإسرائيلي لما قدمه من أفكار ومقترحات، خلال جولته في المنطقة الأسبوع الماضي، والتي تضمنتها نسخة أولية لمقترحات أميركية لوقف إطلاق النار مرحلياً في أفق التفاوض على شروط حل سياسي بعد ذلك. المفارقة هنا أنّ الجانب الإسرائيلي اعتبر أن ما جاء في مسودة كيري، مرفوض بالكامل، ذلك أنّه يساوي، بحسب زعمه، بين إسرائيل وبين حركة المقاومة الإسلامية "حماس" في الموقف، في حين أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، في سلسلة من اللقاءات مع محطات التلفزة الإخبارية الأميركية، أمس الأحد، أنّ المبادرة الوحيدة على الطاولة التي تقبل بها إسرائيل، هي المبادرة المصرية.

المفارقة الثانية هنا، هي إعلان وزارة الخارجية المصرية، أكثر من مرّة، وفي تناغمٍ واضحٍ مع الموقف الإسرائيلي، أنّها لا تقبل بأي تعديلات على مبادرتها الأصلية لوقف إطلاق النار، حتى بعد زيارة كيري للقاهرة، وضغطه على القاهرة من أجل ذلك.
وكانت المقاومة الفلسطينية قد رفضت المبادرة المصرية، ذلك أنّها جاءت، من ناحية من دون تنسيق معها، كما أنّها لم تتضمن بنوداً تضمن رفع الحصار عن قطاع غزة وفتح معابره إلى العالم الخارجي من جهة ثانية، بحسب ما ينص عليه اتفاق الهدنة بين الجانبين في نوفمبر/ تشرين الثاني 2012، والتي توسطت فيها الولايات المتحدة ومصر تحت قيادة الرئيس المعزول محمد مرسي.
لكن ما هي الأفكار التي تضمنتها وثيقة كيري، والتي سربتها الحكومة الإسرائيلية إلى الصحافة، بشكل أثار الجانب الأميركي، ووصفها كيري نفسه بأنه "تصرف مؤذٍ"، وبماذا تختلف عن المبادرة المصرية؟

استناداً إلى الخطوط العامة المسربة إسرائيلياً للمبادرة الأميركية، والتي سُلِّمَت لنتنياهو، يوم الجمعة الماضي، على أنها "مسودة خاصة"، بعنوان: "إطار لوقف إطلاق نار إنساني في غزة"، فإن كيري اقترح وقف إطلاق نار من الجانبين، ولمدة أسبوع، ابتداءً من أمس الأحد.
وبعد 48 ساعة من دخول وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ، تقوم القاهرة بتوجيه دعوة إلى إسرائيل والفصائل الفلسطينية للدخول في مفاوضات حول "وقف إطلاق نار مستدام"، و"حل دائم" لما وصفتها الوثيقة بـ"الأزمة في غزة"، بما يتضمن ترتيبات لفتح المعابر، والسماح بدخول البضائع وحركة الناس، وضمان الأحوال المعيشية والاجتماعية لسكان غزة، فضلا عن السماح بتحويل الأموال إلى غزة لدفع رواتب الموظفين.

كما أشارت الوثيقة المسربة، إلى أنّه خلال "وقف إطلاق النار الإنساني"، فإنّ الأطراف كلها ستمتنع عن القيام بأيّ عمليات عسكرية أو أمنية تستهدف الطرف الآخر، كما أنّهم سيسمحون بإيصال المساعدات الإنسانية، والتي تتضمن الطعام والدواء والمأوى للفلسطينيين في غزة.
وأكدت وثيقة كيري أنّ أعضاء الأسرة الدولية، وتحديدا الأمم المتحدة، الاتحاد الأوروبي، الولايات المتحدة، قطر، تركيا، وآخرون، سيدعمون أيّ وقف إطلاق للنار بين الطرفين، وسيساهمون في المبادرات الإنسانية للاستجابة للحاجات العاجلة لشعب غزة.
وفي مقابل ذلك، فإنّ وثيقة كيري تشير إلى أنّ المفاوضات المقترحة في القاهرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، بدعوة مصرية "ستناقش كل القضايا الأمنية".

أمّل المسؤولون الأميركيون بأن تساهم العبارة الأخيرة، بالإضافة إلى الإحالتين السابقتين لـ"وقف إطلاق نار مستدام"، و"حل دائم"، في تجاوز أيّ اعتراضات أو عقبات من قبل إسرائيل وحركة "حماس". فبحسب منطق مساعدي كيري عند تقديمهم لتلك الوثيقة، فإن تلك الإحالات الثلاث قد تقرأها الحركة الفلسطينية على أنها تتضمن رفع الحصار عن قطاع غزة، في حين يمكن لإسرائيل أن تقرأها على أنها دعوة لنزع سلاح المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة. ولكن وعلى عكس طموحات فريق كيري، فإن إسرائيل لم تقرأها بذلك الشكل، بل واعتبرت أنها تساوي بين حماس وإسرائيل في الخطاب والمطالب. وأبدت تل أبيب امتعاضاً كبيراً، خصوصاً لناحية عدم إشارة مسودة مقترحات كيري إلى مسألة أنفاق المقاومة الفلسطينية تحت قطاع غزة، الواصلة إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948، والتي كان لها دور كبير في إحداث إصابات في صفوف جيش الاحتلال الإسرائيلي، وذلك على الرغم من أنّ الوثيقة لم تشر أصلا إلى ضرورة توقف إسرائيل عن البحث عن هذه الأنفاق، وتهديمها خلال فترة التهدئة الأولية التي تقترحها لمدة أسبوع.

مباشرةً بعد تسريب هذه الوثيقة بشكل متعمد إلى الصحافة الإسرائيلية، سارعت هذه الأخيرة إلى شن هجوم حاد على كيري واصفة إياه تارة بـ"العار"، وتارة أخرى "بالمخلوق الفضائي". كما نقلت الكثير من التصريحات عن مسؤولين إسرائيليين، من دون تحديد هوياتهم، يتهمون فيها كيري والرئيس باراك أوباما، بـ"عدم الالتزام الجاد بأمن إسرائيل".
اللافت أن إدارة أوباما، ومنذ بدء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في السابع من الشهر الجاري، لم تترك وسيلة إلا وعبرت من خلالها عن انحيازها التام لصالح إسرائيل، بدءاً من إعلانها ما تسميه "حق إسرائيل بالدفاع عن نفسها" أمام صواريخ المقاومة الفلسطينية المنطلقة من قطاع غزة،، والمسارعة في تقديم طلب إلى الكونغرس لتخصيص تمويل إضافي بمئات الملايين من الدولارات لدعم وتطوير النظام الصاروخي الإسرائيلي الدفاعي، المعروف باسم "القبة الحديدية" المخصصة لاعتراض صواريخ المقاومة الفلسطينية، وصولاً إلى تأخير تحركها الدبلوماسي لوقف شلال الدم الفلسطيني المترتب على العدوان الإسرائيلي على غزة، والذي لم يبدأ إلا بعد نهاية الأسبوع الثاني من العدوان ودخوله الأسبوع الثالث. وقد تمثل ذلك بإرسال كيري إلى المنطقة، يوم الإثنين في 21يوليو/تموز الجاري، ولكن كل ذلك لم يشفع لإدارة أوباما لنيل رضا تل أبيب.

مفارقة أخرى في هذا السيّاق، تتمثل في أن مساعدين لكيري أشاروا إلى أن إحدى أهم العقبات التي واجهت هذا الأخير، خلال جولته الشرق الأوسطية الأسبوع الماضي، تمثلت في ضغط محور مصر ــ الإمارات عليه لعدم "إنقاذ حماس" من ورطتها، وبأنه ينبغي أن يصر على المبادرة المصرية، والتي هي في حقيقتها وثيقة استسلام يريد ذاك المحور، بدعم إسرائيلي، فرضها على المقاومة الفلسطينية. ولم يخف ذلك المحور سخطه إزاء الموقفين القطري والتركي الداعم سياسياً ودبلوماسياً لمقاومة غزة. ومما زاد في استفزاز ذلك المحور، هو اجتماع باريس، الذي ضم يوم السبت الماضي، بالإضافة إلى كيري، وزراء خارجية كل من: فرنسا وبريطانيا وألمانيا وإيطاليا وقطر وتركيا، إضافة إلى وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي، ولم تُدع إليه لا إسرائيل ولا مصر ولا حتى السلطة الفلسطينية.

التفسير الأميركي لدعوة قطر وتركيا هو أنّها، أيّ الولايات المتحدة، لا تملك قنوات اتصال مباشرة مع حركة "حماس"، ذلك أنّ هذه الأخيرة موضوعة على "قائمة الإرهاب" الأميركية، وبالتالي فهي بحاجة إلى قطر وتركيا اللتان تربطهما علاقات طيبة مع "حماس". غير أن ذلك لم يقنع إسرائيل والمحور العربي المساند لها، فكان أن شنَّ المسؤولون الإسرائيليون هجوماً حاداً على كل من قطر وتركيا.

ورغم أنّ الأميركيين يشددون على الدور المركزي لمصر في معادلة جهود "التهدئة" بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وعلى أنّ المبادرة المصرية تبقى هي الإطار للمقترحات الأميركية، غير أنّ ذلك لم يعجب لا مصر ولا إسرائيل، فالمبادرة المصرية تقدم أكثر لدولة الاحتلال من المقترحات الأميركية، كما أنّها أيضاً تعزز جهود نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي، في حربه على جماعة "الإخوان المسلمين"، و"حماس". وتدعو المبادرة المصرية عملياً إلى "تهدئة مقابل تهدئة"، أي أنها تساوي بين الضحية والجلاد، ولا تتضمن أيّ حديث عن معالجة آثار العدوان الصهيوني على غزة، ولا عمّن أعيد اعتقالهم في الأسابيع الأخيرة من أسرى محررين، فضلاً عن أنّها تربط مسألة رفع الحصار عن القطاع وفتح معابره مع دولة الاحتلال، لا مع مصر، الذي هو خارج المعادلة، بحسب الناطق باسم وزارة الخارجية المصرية، بـ"تحقق الاستقرار الأمني على الأرض"، وهو الأمر الذي ربطه البعض بنزع سلاح المقاومة الفلسطينية.

لم يكن التحرك الدبلوماسي الأميركي، تحرك المغادر لمربع الانحياز التام والمطلق لإسرائيل، وإنما تحرك من يريد إنقاذ تل أبيب من ورطتها ومن سياساتها، والتي في المحصلة تورط الولايات المتحدة ذاتها. وكما يقول بعض المعلقين السياسيين الأميركيين، فإنّ "الصديق لا يترك صديقه يفعل أموراً حمقاء". ومشهد البؤس الإنساني الكارثي الآتي من غزة، جراء آلة العدوان الصهيونية، صدم العالم بمناظره المروعة، وإدارة أوباما تئنّ اليوم تحت وطأة تحديات كثيرة في سياستها الخارجية، كما في أوكرانيا وبحر الصين الجنوبي وسورية وليبيا والعراق وأفغانستان... وهي ليست بحاجة إلى صداع آخر يؤكد المؤكد بأن زعامة أميركا تتراجع عالمياً.

المساهمون