وارسو لا سايكس بيكو

19 اغسطس 2016
+ الخط -
يبدو أن النقاشات التي دارت في وسائل الإعلام، وفي أروقة السياسة، ونداءات الاستغاثة التي أطلقها كثيرون عبر السنوات الماضية، عن تغيير خرائط المنطقة، كانت كلها مبنيةً على تهيؤات وأوهام. ويبدو أن لا أحد يفكّر بتغيير خرائط سايكس وبيكو، وأنّ ما من رجلين غامضين جلسا في قاعةٍ مظلمةٍ، وقالا: مضى على هذه الخرائط قرن، تعال لنرسمها من جديد، ونقسم الشعوب على هوانا.
التغيير الكبير الذي يحصل، انطلاقاً من منطقتنا، ليس في هذه الخرائط، بل هو، على ما يبدو، إعادة نظر في خرائط تقاسم النفوذ بين حلفي الناتو ووارسو، أو شيء ما يشبه حلف وارسو. والخط الذي تم تحديده، بعيد الحرب العالمية الثانية، وتحطم، في نهاية ثمانينات القرن العشرين، يعاد بناء بديلٍ جديدٍ له الآن، فجدار برلين الذي شكل فاصلاً رمزياً بين القوتين الكبريين في العالم، في النصف الثاني من القرن العشرين، وشكل تحطيمه انتصاراً رمزياً لإحدى تلك القوتين، وتفرّدها بسيادة العالم ربع قرن، يتشكل الآن بطريقة مختلفة، ومن دون حاجةٍ لوجود حجارةٍ فعليةٍ، تفصل بين القوتين، وذلك من دون الحاجة لدبابات ترسم الحدود الفاصلة.
تحمل الخطوة الروسية، وقد فاجأت العالم، أخيراً، وهي اتخاذ قاعدة جوية في همذان الإيرانية، معاني ودلالاتٍ كثيرة تستحق التوقف عندها طويلاً، وهي تشكل تحولاً مهماً ليس في مجريات الحرب السورية فقط، بل على مستقبل العلاقات والأحلاف وتوازن القوى في منطقة الشرق الأوسط.
فما بدا أنه خلاف روسي إيراني في سورية غير موجود، وكل ما قيل عن خلافٍ في وجهات النظر بين القوتين على مصير بشار الأسد، تبين أنه موضوعٌ ثانوي وصغير، ولا يؤثر على مسار التغيير التاريخي الذي تشهده منطقة الشرق الأوسط، واللب في الموضوع أن أحلافاً جديدة تنشأ بتوافق القوى الكبرى. ولا تخرج زيارة الرئيس التركي، رجب طيب أردوعان، سان بطرسبورغ، عن هذا السياق الجديد الذي يرسم الآن، وكذلك اللقاءات العسكرية الأميركية الروسية التي تكثفت وتيرتها في الفترة الأخيرة، واعتقدنا نحن السوريين بسذاجة أنها تدور حول منبج أو الباب أو داريا، أو حلب على أكبر تقدير، لنكتشف فجأة أنها ترسم خريطة أحلاف جديدة تمتد على بقعة كبيرة من العالم.
توحي الإعلانات الروسية والإيرانية حول فتح القواعد الجوية الإيرانية أمام المقاتلات الروسية أن شيئاً كبيراً ومديداً يحصل، وأن الأمر ليس مجرد عملية عسكرية محدودة وقصيرة الأمد، وأنه قرار استراتيجي، وللمنطقة التي تم اختيارها في إيران أهمية كبيرة، لأنها تعني وجوداً عسكرياً روسياً كبيراً قرب منابع النفط الكبرى في العالم، فالقاعدة الجوية، التي تكاد تصبح روسية، قريبة من أهم منابع النفط في العالم في إيران والعراق ودول الخليج العربي.
ولكي لا نستمر في سذاجتنا، فإن قراراً بهذا الحجم لا يمكن أن يتم من دون توافق روسي أميركي كامل، والتصريحات الأميركية التي حملت، بعد التلميح إلى المفاجأة، لا تنفي هذا التوافق، فكل ما قاله الأميركان أنهم فوجئو بالتوقيت، وأن الروس أبلغوهم بهذه الخطوة، ونسّقوا معاً بخصوصها، وأنها تصب في الجهود الدولية لمحاربة الإرهاب، مع ملاحظة أن الروس والإيرانيين نسّقوا التفاصيل اللوجستية والتوقيت مع العراق، قبل البدء بأي تحرك، ما يعني أنه تم التنسيق مع الأميركان حتى على التفاصيل الصغيرة، وأن ما يقوله الأميركان عن مفاجأة لا صحة له، فإبلاغ الحكومة العراقية بعدد الطائرات وتوقيت عبورها الأجواء العراقية يعني تبليغاً مباشراً للجيش الأميركي.
قال الروس إن موافقة طهران على نشر القاذفات يعكس "حجم التعاون غير المسبوق، والاستعداد لتقارب واسع مفتوح زمنياً، خصوصاً مع الحديث عن احتمال توقيع اتفاق ثنائي لتنظيم وجود القاذفات الروسية في إيران"، بينما قال أمين مجلس الأمن الإيراني، علي شمخاني، إن التعاون بين طهران وموسكو استراتيجي لـ "مكافحة الإرهاب في سورية، وإننا نقوم بتبادل القدرات والإمكانات في هذا الشأن".
الأميركان في لب الاتفاق، وهو تغيير كبير في خارطة التحالفات، وخريطة الشرق الأوسط، وما جرى في تركيا في الأسابيع الأخيرة، من المحاولة الانقلابية إلى الحملة الكبرى التي تلت ذلك الانقلاب الفاشل، إلى زيارة أردوغان روسيا، ونجاح أنقرة وموسكو في تجاوز أزمة إسقاط الطائرة الروسية، يشي بأن تركيا ليست بعيدة عن هذا التغيير وعن تفاصيله ومستقبله، وهذا ما ستكشفه الأيام المقبلة.
A78EE536-6120-47B0-B892-5D3084701D47
علا عباس

كاتبة وإعلامية سورية