حافظ هيتشكوك على مكانتهِ لأكثر من نصف قرن، لأنه لم يفقد يومًا تلك الصلة مع جمهورهِ والتي تسمح له بفهمهم. يقول: "أنا دائمًا ما آخذ الجمهور بعين الاعتبار"، وأصرّ معربًا بدهاءٍ بأنه يهتم لهم حقًا. لم يُهن هيتشكوك جمهوره قبلًا بل أجله وأكرمه، وفي الوقت نفسه لم يثق به، وقال إنه لاحظ هذا التناقض لديه منذ بداية حياته الفنية.
كان المخرجون في أوقات سابقة، مثل بورتر وجريفيث ومورناو وآيزنشتاين يتوقّعون أن تعمل أفلامهم على وضع حدٍ للحرب والجهل، وهيتشكوك كمشاهد شاب، ثم ككاتب سيناريو ومدير فني، وأخيرًا كمخرج فإنه يرى بأن للفيلم وظيفة وأثرًا يختلفان مع وجهات النظر الأخرى. رأى هيتشكوك أن الأفلام فعليًا تعزّز الشعور بدور الضحية لدى المشاهد.
كل رائعة من روائع هيتشكوك، تركت أثرًا على مشاهديه بشكل مختلف عن الأخرى؛ يلعب الشك دورًا مهمًا على الانحرافات في الرؤية الذاتية ومبينًا كيف يمكن "للشك" أن يُضفي صورًا محايدةً تعطي الشعور بالخطر. لينا تشك وتشتبه بأن جون قاتل، وهذا فقط لأن لينا مجرمة وتظنّ أن كل من حولها مجرم.
ففي فيلم Shadow of a Doubt يأتي العم تشارلي ذو الشخصية الشيطانية إلى بيت أخته التي تعيش في سانتا روزا ويقوم بتهديد تشارلي ابنة أختهِ بالموت، وفي هذا المشهد يشبه الأمر مواجهة بين الخير والشر، لنلاحظ لاحقًا أن خير الفتاة ليست إلا انعكاساً لما في دواخلنا. خير الفتاة شيء من اختراعنا، ولكن فعليًا، كانت هذه الفتاة هي من دعت عمّها ليزورها ولتجد نفسها مهدّدة أو خائفة من كمية التشابهات بين شخصيتيهما لاحقًا.
وكذلك أخطأ ديفلين وسيباستيان الحكم على أليشا هوبرمان مرارًا وتكرارًا في فيلم Notorious، ولكن انعدام القدرة على الإدراك والرؤية من وجهة نظر صحيحة هو انعكاس لما في دواخلنا ولانعدام قدرتنا كذلك على التهرّب من إطلاق الأحكام أساسًا. لقد كانت أليشا "سيئة السمعة/Notorious" بسببنا نحن الجموع المحدّقة التي كانت تستمتع برؤية فضيحتها. ولقد كان فيلم Psycho فيلمًا مروعًا بلا منازع، لأنه كان يؤكّد على وجود علاقة عميقة ووطيدة بين شخصية نورمان وضحاياه وبين ونورمان ومشاهديه.
تحتوي هذه الأفلام على مديح أكثر ممّا يمكن لأي حفل مديح أن يقوله، وحتى تصبح أعمال هيتشكوك موضع انتقاد مكثف، فستبقى مكانة هيتشكوك غير "مقدرة" وستبقى بدون أن يفيها أي أحد حقها. قد يكون هيتشكوك أحد أبرع الحداثيين. يقول هيتشكوك: "أنا أمارس العبثية بقدسية".
وفي بدايات العشرينيات، كان هيتشكوك قد بدأ عمله العبقري في استخدام تقنية انعكاس الفيلم وكيف تترك أثرًا وكيف تتفاعل مع المشاهدين واستمر لاحقًا في فعل الأمر نفسه، ولكنه بعبقرية وأناقة أكثر، ففيلمNorth by Northwest تحفة فنية حداثية؛ يركز حرفيًا على "لا شيء" ويشار إليه دائمًا على أنه ابتكار إبداعي، وغالبًا غير معروف بالنسبة للثقل الأكاديمي لدينا في ندوات الدراسات العليا حول النظريات الأدبية. وفي الوقت نفسه، تُعرض أفلام هيتشكوك شعورًا بديعًا من الوضوح والتصالح النفسي، ولربما تكون أعماله هي الأعمال الأكثر إلحاحًا واتصالًا بالعصر الفرويدي حيث تعمل على غربلة "السلوك العادي" للغوص في غموض الشخصيات ودوافعها غير المعلنة. هذه الأعمال تجعل من هيتشكوك أكثر فنانٍ حداثي عَمِل على إظهار اللاوعيّ في الحياة، فمن الأشياء المعروفة في الحياة اليومية وصولًا إلى جرعات مرعبة من الجنون.
وأيضًا تحمل أفلام هيتشكوك انطباعًا عميقًا عن السياسة، فطريقته في العمل لا يمكن أن نجد مثلها إلا عند مخرجٍ بقامتهِ: تشجعنا أعماله على الرؤية من جديد وأن نعيد النظر ونلمّع النظارات التي ننظر بها إلى الشخصيات الرسمية وكذلك أن نعيد فهم الأشياء والأفكار التي حصلنا عليها بالوراثة دون أن نتعب في الاقتناع بها. وفي عصرٍ يجلس في الجميع أمام التلفاز (أو أي شكل من أشكالهِ) لمتابعة السينما، فإننا اليوم بحاجة ماسة إلى هيتشكوك أكثر من أي وقتٍ مضى.
وطالما نحن نتبع ونقبل الاتجاه العالمي الجديد، فإننا سنستمر في افتقاد أهمية أفلامهِ أو أهمية الأفلام بشكل عام. وسمعة هيتشكوك المنخفضة لدى مراجعي الأفلام تخبرنا بالكثير عن حالة النقد السينمائي هذه الأيام، وأيضًا لا تزال تشير إلى أن الأسطورة الرومانسية للفنان ما زالت تربك الملايين. وفعليًا، لو أن هيتشكوك كان شخصًا منبوذًا يتقيأ في حفلات العشاء ومات في أربعيناته، فلربما صدّره الناقدون والمراجعون على أنها عبقريّ. وهذه الأسطورة طبعًا مريحة جدًا للصحافيين. ويثير نجاح أكثر المحترفين في هوليوود مثل هيتشكوك وفورد وهوكس حنق الكثير من النقاد والذين لا يجب تذكيرهم بأنه ليس لأحكامهم وآرائهم أي تأثير على الناس (المشاهدين).
يفشل العديد من النقّاد في إخفاء ذلك النوع من الارتياح عن وجوههم عند التباكي على مثل هذه الوظائف الفاشلة، ولكن هيتشكوك في المقابل، كان ناجحًا جدًا وساخرًا جدًا ولا يوجد لديه أي ثغرة يمكن أن يؤتى من قبلها. لقد كان فنانًا جادًا. في الواقع، لقد استخدم هيتشكوك صورته العامة ليناقض الأسطورة الرومانسية بنفسهِ: بشكله الذي يشبه حبة الكمثرى وملابسه الرصينة وهيبته. لقد كان يبدو كبائع خضار من العصر الإدواردي. لقد غابت هذه الفكرة والمفارقة عن ذهن منتقديهِ، واستخدموها ضده على أنه إنسان "يفتقر للخيال" مثل أي مخرجٍ عاديٍ آخر.
لقد استندت كل هذه الأحكام على الانطباعات الأكثر سطحية عنه وعن أعماله والتي تؤخذ عادة عن الاحتفالات التي يقيمها الهواة، والتي تهين أكثر مما تكرم أعمال الفنان. يجب أن نبدأ حقًا الآن في إعادة النظر في مسيرة هذ الرجل العظيمة. لقد كان هيتشكوك أعظم المخرجين ومن ضمن أكثر الفنانين عظمة في القرن العشرين. لم يقم أي مخرج حتى بصناعة أي فيلم له ذات القدر من الشعبية وذات القدر من العمق والتأثير.
لم يستطع أي مخرج حداثي التأثير في الناس كل تلك الفترة الطويلة. لأكثر من 50 عاماً عمل هيتشكوك على استفزاز المشاهد ليبقيه متيقظًا في أفلامهِ باستخدامه للتعقيد المذهل والبسيط والقوّة في الحبكة والأداء. والآن، وبما أن الفنان ميتٌ، أعتقد بأنه يجدر بنا أن نغوص مجددًا فيهِ وفي أعماله وأن نعيد فتح إبداعاتهِ للنقد من جديد والنظر إليها بعين جديدة وبرؤية جديدة. إنه الوقت المناسب لنعطي هذا الفنان العظيم التقدير اللازم ونفكك أعماله ونرى لماذا نحن بحاجة إليه في هذا العصر أكثر من أي وقتٍ مضى.
(النص الأصلي)