شماريخ في كل مكان، شعارات تحمل صور هتلر وأينشتاين وبيل جيتس ورموز القضية الفلسطينية. صور لداعش وإيحاءات جنسية وعبارات تنتقد المربين والأساتذة، هتافات وصراخ، وأهازيج تشبه أجواء المباريات الرياضية، تلاميذ داخل وفوق سيارات تطوف الشوارع في محاولة للفت انتباه المارّة، صور تغزو مواقع التواصل الإجتماعي.
صوت المنبهات يتعالى كلما اقتربنا من المعاهد، لباس موحّد للتلاميذ، وقمصان كتب عليها عبارات، وبالقرب من المعاهد وفي الشوارع يتفنّن تلاميذ البكالوريا في امتحان الرياضة الذي يسبق امتحانات آخر السنة، أو ما يسمى بـ"الدخلة".
احتفالية دأب التلاميذ على تنظيمها في تونس خلال السنوات العشر الأخيرة، وتختلف من محافظة إلى أخرى ومن معهد إلى آخر، لكن "دخلة" هذا العام أثارت الكثير من الجدل والانتقادات بسبب الشعارات المرفوعة وتداخل التربوي بالسياسي وحمل شعارات المنظمات الإرهابية، إلى درجة أن موقع "أفريقية للإعلام" المتحدث باسم تيار أنصار الشريعة المحظور نشر بيانا يعبر فيه عن إعجابه بجرأة التلاميذ وتبنيهم للأفكار الداعشية، لكن سرعان ما فند التلاميذ تعاطفهم مع داعش مؤكدين أن الصور التي رسموها مستوحاة من أحد أفلام "الساموراي".
فهل "الدخلة" عرس لتعبير التلاميذة عن فرحتهم؟ أم تمرّد وانقلاب على القيم التربوية؟ أم هي بحث عن هوية؟
اقرأ أيضا:تلاميذ تونس بلا امتحانات.. حيرة للعائلات
شيماء تلميذة بكالوريا آداب في مدرسة نهج مرسيليا وسط العاصمة تونس، قالت لـ"العربي الجديد" أنّ هناك تنافسا كبيرا بين الاختصاصات أي الرياضيات والآداب والمواد التقنية. فكل اختصاص يحاول منافسة بقية الاختصاصات من خلال نوعية الاحتفال أو "الدخلة" التي يقيمها.
واعتبرت شيماء أن الموضوعات عادة ما يختارها التلاميذ بأنفسهم دون أدنى رقابة، فمثلا تلاميذ شعبة الآداب يختارون موضوعات لها علاقة بشعبتهم الأدبية، وكشفت أنهم اختاروا هذا العام موضوعا عن المرأة نظرا للانتقادات التي وجهها بعضهم إليها.
استعملت شيماء في الدفاع عن هذا الاختيار عبارات من أغاني "الراب" من قبيل "كلاش" والمقصود بها الهجوم على المرأة، وكان الخطاب ولغة الكلام يعكسان التأثير الواضح للغة التي يستعملها مغنو الراب على الشباب. "شعارنا: نساء بلادي نساء ونصف، وقصيدة عن المتنبي وصورة عملاقة لعليسة ابنة ملك صور ومؤسسة قرطاج وملكتها الأولى، بحسب قولها.
أما عن المصروفات التي يتكبدونها، فتوضح أنهم يعدون العدة منذ بداية السنة خصيصا لهذه المناسبة، فيدخرون جزءا من المصروف اليومي والبقية يتحصلون عليه من أوليائهم، وأكدت أنهم نظموا اجتماعات لمناقشة الأفكار واختيار الشعارات، ثم طلبوا من مختص رسمها على لافتات عملاقة.
وتؤكد مريم عبّوني، تلميذة في الشعبة ذاتها، أنّ التنافس يقع بين الاختصاصات في المعهد نفسه، وأن كل طرف يحاول التباهي والتفوق على البقية، ثم يقع التنافس بين المعاهد، إذ يحاول كل معهد أن تكون "دخلته" الأفضل، وأنهم يتباهون بوضع الصور على مواقع التواصل الاجتماعي لإثارة الرأي العام.
وأشارت إلى أن هذه الاحتفالية هي تعبير عن الفرحة وفرصة للمرح واللهو، "نحن نجتاز البكالوريا لأول مرة ونريد ترك بصمتنا الخاصة في المعهد، ولذلك نسعى إلى تطوير الشعارات ونتفنن في الدخلة"، على حد قولها.
و لم تخف مريم أنهم يهتمون بالدخلة أكثر من اهتمامهم باجتياز امتحان الرياضة.
اقرأ أيضا:خفض معدل النجاح بـ"البكالوريا".. جدل تونسي
واعتبر زياد مشني (20 عاما) أن الموضوعات التي اختارها التلاميذ مستمدة من الواقع، وأنه من الطبيعي أن يتداخل السياسي بالموضوعات الآنية وبمشاكل العصر، وقال إنه لا يمكن أن نفصل التلميذ عن الشأن العام وخاصة الشأن السياسي، مؤكدا أن بعضهم قد يبالغ في التعبير عن فرحته وفي العبارات، ولذا يتعين على وزارة الداخلية فتح ملف الشعارات "الداعشية" التي رفعت في بعض المحافظات.
في السياق ذاته، قالت نسرين قسنطيني إنهم يرفضون الشعارات المتطرفة، مبينة أن بعضهم قد يستغل هذه الاحتفالات البسيطة للاندساس وسط التلاميذ بهدف بث البلبلة وتعكير الأجواء، ولاحظت وجود الكثير من الفوضى والصراخ في دخلات "الباك سبور" كما يسمونها، إلى جانب قلة التنظيم والعنف، وهو ما يسبب حالة من الانفلات ويجعل بعض الاحتفالات تخرج عن السيطرة.
أما إيمان غربي فأكدت أنها ضد "الدخلة" رغم أنها مظهر من مظاهر التعبير عن الفرحة، ووضحت أن هناك مجالات أخرى للتعبير عن الفرح، خلافا لما يقوم به التلاميذ الذين تجاوزوا حدود المعقول.
وتشدد إيمان على ضرورة منع ما يحدث، لأن التلاميذ بطبيعتهم ميالون إلى العنف والفوضى وهو ما يجعل الأمور تخرج عن السيطرة في حالات كثيرة. "الأمن قد يعجز أحيانا عن السيطرة على الأمور وفرض النظام وهو ما تسبب في عدة حوادث".
ويرى القيم العام بمعهد بمحافظة صفاقس، محمد صالح الخليفي، أن "الدخلة" تختلف من محافظة إلى أخرى، وهي تقريبا غير موجودة في القرى الريفية والمناطق المهمشة، فقد عمل في العديد من المعاهد ولاحظ أن تلاميذ المدن والمحافظات الكبرى ينفقون مالا كثيرا على هذه الاحتفالية.
وبين أنهم كمعهد عملوا على تأطير التلاميذ ومراقبة الشعارات والحضور في أعمال الإعداد، بل طلبوا من التلاميذ تكوين لجان ورئيس لجنة، وحملوهم مسؤولية أي انفلات قد يقع أو شعارات قد ترفع وتكون مخالفة لما تم الاتفاق عليه.
واعتبر القيم العام أن الهدف من المراقبة هو السيطرة على الأمور، لكي لا تنقلب الأفراح إلى أتراح، معبرا عن استغرابه من بعض الشعارات التي رفعت في بعض المعاهد وتتضمن صورا جنسية وعبارات منافية للأخلاق.
اقرأ أيضا:مساءلة وزير التربية التونسي حول الغش في الامتحانات
المختص في علم الاجتماع، شهاب اليحياوي، قال لـ"العربي الجديد" إن ما يسمى بدخلة البكالوريا هي احتفالية رمزية يوظف فيها الرمز والعلامات والإشارات في شكل رسوم وأشكال وعلامات لتمرير مواقف من المدرسة أو من المجتمع أو من المدرسين أو من السلطة التربوية أو المجتمعية أو لتقديم رؤى وتصورات لذواتهم ولصلتهم بالآخرين.
وأوضح اليحياوي أن الثورة جعلتنا أمام مرحلة ثالثة للظاهرة تتميز بالبحث عن الدهشة والصدمة والإثارة في أبعد أشكالها الاستفزازية، والتي تحدّت في أحيان كثيرة كل الضوابط القيمية الجماعية وحتى المرفوض مجتمعيا مثل الصور الرامزة للحرق والذبح والقتل والتدمير والجنس كلغة تخاطب مع الآخر المختلف أو المغاير، وتتصف "الدخلة" أيضا بمنسوب احتقان عالي الدرجة في المشاعر الكارهة والرافضة لسلطة المربي ووصايته عليه وكبته لحرية التلميذ وحرمانه من فرص إبراز ذاته والتعبير عن مواقفه من وجهة نظره.
وقال إن التلاميذ استغلوا الرموز والأشكال والعلامات الموظفة في الرسوم وما يتداول يوميا في وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، وبالتالي هم لم يختلقوها بل وظفوها في مجال مغاير لجلب الانتباه أو لإحداث الصدمة والدهشة وخلق المشهدية.
وقال وزير التربية، ناجي جلّول، في تصريح خاص بـ"العربي الجديد" إنّ العنف الموجود في المعاهد ظاهرة ليست جديدة، وإنه سبق أن تمت الإشارة إليه في عدة مناسبات، فالشباب طاقة، والطاقة إن لم توجه إلى الأنشطة المناسبة سواء كانت رياضية أو موسيقية أو ترفيهية، فإنها تتحول إلى عنف.
وأضاف جلّول أن "دخلات" البكالوريا موجودة منذ عدة أعوام، ولوحظ أنها أصبحت تحتوي على تجاوزات عديدة، مؤكدا أنه تقرر منعها العام المقبل، وفي انتظار التحضير والتهيئة لهذا القرار سيتم مراقبتها ومعالجة التجاوزات.
وأكد الوزير أن هناك بعض التهويل عند الحديث عن بعض الشعارات الداعشية، وفي نظره هي مجرد تعبيرات عكس ما يوجد في الأوساط الشبابية، وعلى الجهات التربوية تحمل مسؤوليتها في تأطير التلاميذ والمضامين ومراقبة الشعارات المرفوعة.
اقرأ أيضا:تونس: شدّ وجذب بين "التعليم" و"المعلمين".. والتلميذ ضحية