تنتاب الحزب الشيوعي السوداني شكوك عميقة إزاء التزام المجلس العسكري، بقيادة الجنرال عبد الفتاح البرهان، بتطبيق الاتفاق المبرم مع قوى "إعلان الحرية والتغيير"، برعاية أفريقية ــ إثيوبية، وذلك وفقاً لشواهد عديدة، لخصها بيان صادر عن الحزب بوجود تاريخ حافل للمجلس العسكري بنقض المواثيق والعهود. وتضاف إلى ذلك المخاوف الشعبية من تمثيل قادة المجلس الضالعين في مجزرة فض اعتصام القيادة ضمن عضوية المجلس السيادي.
يأتي ذلك في الوقت الذي أكدت فيه لجنة قانونية مشتركة شكلها المجلس العسكري وقوى "إعلان الحرية والتغيير"، أمس الاثنين، أنها أوشكت على الانتهاء من الصياغة القانونية للاتفاق السياسي بين الطرفين، الذي توصلا إليه فجر يوم الجمعة الماضي. وشمل اتفاق الجمعة تشكيل مجلس سيادي من 11 عضواً، 5 من العسكريين و5 من المدنيين، وعضو واحد يتم التوافق عليه، على أن يرأس المجلس في فترة 21 شهراً الأولى أحد العسكريين، ثم تؤول الرئاسة لشخصية مدنية في فترة 18 شهراً التالية. كما تضمن الاتفاق تشكيل مجلس وزراء بواسطة قوى "إعلان الحرية والتغيير" مع تأجيل تشكيل البرلمان الانتقالي. كما جرى الاتفاق أيضاً على تكوين لجنة تحقيق وطنية بشأن أحداث العنف خلال الفترة الماضية. وقال عضو اللجنة القانونية المشتركة المحامي نبيل أديب، لـ"العربي الجديد"، إن الصياغة التي يعكفون عليها، تهدف إلى تحويل الاتفاق السياسي إلى إطار قانوني، بما يشمل صلاحيات هياكل الحكم، المجلس السيادي ومجلس الوزراء. ويتوقع أن يتم التوقيع النهائي على الاتفاق بنهاية الأسبوع الحالي، بحضور عدد من الزعماء الأفارقة، في مقدمتهم رئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد.
ولا يبدو موقف الحزب الشيوعي ومخاوفه إزاء عدم التزام المجلس العسكري بتطبيق الاتفاق بعيداً عن مواقفه طوال الفترة الماضية، في مقابل مواقف الأحزاب الأخرى داخل "قوى الحرية والتغيير"، إذ ظل الحزب رافضاً لكل أشكال المهادنة مع العسكريين والمطالبة بحكم مدني كامل الأركان. ولذا لم يكن مستغرباً أن "الشيوعي" وضع شروطاً لإنجاح الفترة الانتقالية، ممثلة بالتمسك بـ"إعلان الحرية والتغيير" الموقع مطلع العام الحالي، وينص على قيام دولة مدنية ديمقراطية.
وكما يفعل اليوم، فقد راهن الحزب الشيوعي دوماً على الشارع السوداني لحمل العسكر على الرجوع إلى ثكناتهم وإيلاء الأمر للمدنيين. وقد ظهر الموقف عقب مجزرة فض اعتصام القيادة العامة، في 3 يونيو/ حزيران الماضي، حيث ألقى باللائمة على المجلس العسكري وقوات الدعم السريع، بقيادة محمد حمدان دقلو، المعروف بحميدتي. وقال يومذاك، حاثاً على ديمومة الثورة: "أسقطناهم بقوة الثورة السلمية مرة وسنسقطهم ثانية وثالثة، ويقيناً لا يتطرق إليه الشك أن هذه الثورة العظيمة ستنتصر وتصل لغاياتها رغم كيد الأعادي في الداخل والخارج". ثم دعا، في بيان بعد الاتفاق الأخير، إلى ضرورة "استمرار وجود الجماهير في الشارع، حتى إنجاز التحول الديمقراطي وإلغاء كل القوانين المقيدة للحريات، وقانون الأمن، وحل كتائب الظل والدفاع الشعبي والمليشيات ووقف الترتيبات الأمنية، ووقف الحرب، واستعادة أموال وممتلكات الشعب المنهوبة والمحاسبة، وإبعاد الفاسدين من النظام البائد من قيادة الخدمة المدنية والقضاء والنائب العام والإعلام، وعقد المؤتمر الدستوري، بالإضافة إلى تحسين الأوضاع المعيشية التي تدهورت نتيجة للغلاء وارتفاع الأسعار، وشح الخبز والغاز والسيولة، والدواء، وتدهور خدمات المياه والكهرباء، وتحسين البيئة، والاستعداد للموسمين الزراعي والدراسي وتوفير مقوماته، وتوفير العلاج" للمواطنين.
اقــرأ أيضاً
ويبرز الحزب الشيوعي راهناً في المشهد الثوري عبر ثلاث صور، أولاها تتمثّل في موقفه الرافض لتمثيل العسكريين بصورة قطعية في الحكومة الانتقالية، أما الثانية فتحضر من خلال اتهام بعض مكوّنات قوى "إعلان الحرية والتغيير" لقوى من ضمنها "الشيوعي"، بالسعي للهيمنة على كيان الثورة. فيما يتمثل الظهور الثالث في استخدام الحزب من قبل مناوئيه والثورة المضادة على حد سواء، كفزاعة لإخافة الشعب من تطبيق نموذج علماني في الحكم يُقصي الشريعة الإسلامية ودعاتها من المشهد. وينشط الحزب الشيوعي في "الحرية والتغيير" من داخل تحالف "قوى الإجماع الوطني"، وهو كيان رئيسي في المعارضة رفض قادته في وقت سابق مسلك تحالف قوى "نداء السودان" بقيادة الصادق المهدي في لمّ الكيانات السياسية والحركات المسلحة في مجموعة واحدة. وسبق أن دخل "الشيوعي" في حرب بيانات مع أحزاب من بعض قوى الثورة، واتهمها بمحاولة إقصائه من المشهد، بعدم اصطحاب ممثليه في واحدة من جولات التفاوض مع المجلس العسكري.
ويأتي حراك الحزب راهناً ليشكل استكمالاً لمسيرة طويلة من الانخراط في العمل السياسي العلني والسرّي، إذ أدى أدواراً مهمة في المشهد السياسي في البلاد منذ أربعينيات القرن الماضي. وعلى الرغم من تواريه عن الأنظار لفترات غير قصيرة، بعد مطاردته دموياً من قبل الأنظمة الحاكمة، فإنه عاد بقوة إلى الساحة، منذ بدء المسيرات ضد الرئيس المخلوع عمر البشير أواخر العام 2018، وصولاً إلى مشاركته في التفاوض على انتقال السلطة اليوم. ويُعدّ الحزب الشيوعي السوداني واحداً من شيوخ أحزاب اليسار في المنطقة، وهو نشأ في العام 1946 باسم "الجبهة المعادية للاستعمار"، والتي جرى التعارف على تسميتها بـ"الحركة السودانية للتحرر الوطني" (حستو)، وذلك على يد طلاب تلقوا تعليمهم في مصر. وأدّى الحزب دوراً فاعلاً في ثورة أكتوبر/ تشرين الأول 1964 التي أطاحت الجنرال إبراهيم عبود، عبر سيطرة الحزب على العمل النقابي، بتفعيل الإضرابات والتظاهرات المنادية بزوال الحكم العسكري. وما زال الحزب مُصِراً على أن شرارة تلك الثورة أشعلها قتل الشرطة لأحد طلاب الحزب في جامعة الخرطوم، وهو أحمد القرشي، ما قاد إلى تنامي الغضب الشعبي وصولاً إلى الانتفاضة في العام 1964.
وخلال حقبة الديمقراطية الثانية (1964-1969) تم طرد نواب الحزب الشيوعي من البرلمان بعد حادثة "معهد المعلمين"، التي جرى فيها سبّ زوجة النبي محمد، السيدة عائشة، على يد أحد الكوادر الذي قيل إنه ينتمي للحزب. ومع إصرار الحكومة وقتذاك على موقفها الرافض لعودة النواب الشيوعيين، على الرغم من إبطال قرارات طرد نوابهم من البرلمان على يد المحكمة الدستورية، قاد الحزب مع الجنرال جعفر النميري انقلاباً عسكرياً تقلّد بموجبه النميري السلطة في البلاد في مايو/ أيار 1969.
وتبرز أحاديث مستمرة عن ضعف القواعد الجماهيرية للحزب، وإن كانت معظم الآراء تبرر ذلك بانهيار الاتحاد السوفييتي وتحوّل الكثير من الأحزاب الشيوعية إلى تبنّي أفكار اشتراكية، إضافة إلى أن "الشيوعي" تعرض لمجزرة حقيقية ضد قياداته في يوليو/ تموز 1971 إثر فشل انقلاب الرائد المنتمي للحزب، هاشم العطا، في إطاحة جعفر النميري. وإثر ذلك قام الأخير بتصفية كامل الصف الأول للحزب، وفي مقدمتهم سكرتيره العام عبد الخالق محجوب، ورجل النقابات القوي الشفيع أحمد الشيخ. واضطر "الشيوعي" عقب صدمة يوليو 1971 إلى التخفي، ولم يظهر إلى العلن حتى بداية انتفاضة إبريل/ نيسان 1985 التي أطاحت النميري. وشارك في انتخابات العام 1986 وحصل على مقعدين داخل البرلمان. وقبل أن ينجح الحزب الشيوعي في إعادة بناء قواعده، عقب نكسة 1971، انقلب الجنرال عمر البشير وقادة الجبهة الإسلامية على حكومة الصادق المهدي في يونيو/ حزيران 1989، الأمر الذي أدى إلى تراجع الشيوعيين بقيادة محمد إبراهيم نقد، عن المشهد. ولم ينته ذلك إلا مع توقيع اتفاقية السلام الشامل مع "الحركة الشعبية لتحرير السودان" بقيادة جون قرنق في العام 2005. وبموجب الاتفاق مُثلت القوى المعارضة في الحكومة خلال فترة انتقالية استمرت لست سنوات.
وفي الفترة الأخيرة، أبان "الشيوعي" عن قدرات كبيرة بتسييره موكباً ضد نظام عمر البشير في 16 يناير/ كانون الثاني 2018، وهو ما يعتبره كثيرون أنه إحدى ركائز التصعيد الثوري التي قادت إلى انتفاضة ديسمبر/ كانون الأول 2018. وأصدر الحزب الشيوعي بياناً قبل أيام شدّد فيه على ضرورة اقتصار الحكومة الانتقالية على المدنيين، مع انتفاء أي وجود للمظاهر العسكرية، حتى في المجلس السيادي الذي جرى التوافق على تشكيله أخيراً.
وفي وقت يرى فيه كثيرون في موقف الحزب مخالفة لمواقف قوى "إعلان الحرية والتغيير" الباحثة عن صيغة للتوافق مع المجلس العسكري الانتقالي، بقيادة عبد الفتاح البرهان، يقول الصحافي المتخصص في شؤون أحزاب وحركات اليسار علاء الدين محمود، في حديث مع "العربي الجديد"، إن وجود الحزب ضمن منظومة "الحرية والتغيير" شكّل رقابة كبيرة حالت دون الانحراف والانجراف الثوري نحو الهبوط الناعم، إذ إن كثيراً من الرؤى تريد أن تقود الثورة السودانية للارتهان إلى العامل الخارجي، والبعض منها يرى أن ما تحقق كافٍ جداً، بينما وجود الحزب الشيوعي ضمن هذه المنظومة يشكّل ضمانة لاستمرار الثورة حتى تتحقق كل مطالبها. ويصف محمود الحزب الشيوعي بأنه يمثّل حالة فريدة في المشهد السياسي السوداني، فهو صاحب التأثير الأكبر، على الرغم من عدم استناده إلى قاعدة جماهيرية تضاهي الأحزاب التقليدية، وذلك لأن الحزب يجيد التغلغل داخل المجتمع والتأثير عليه بقوة الأفكار التي يطرحها. وحول ما إذا كانت هناك صراعات مُرحّلة بين مكونات قوى "إعلان الحرية والتغيير"، يرى محمود أن اختلاف الرؤى داخل التحالفات أمر طبيعي، إذ يملك كل حزب رؤيته في ما يتعلق بالحل، مضيفاً "في وقت سابق كانت بعض القوى في الحرية والتغيير تنادي بضرورة المشاركة في الانتخابات التي دعا إليها عمر البشير، وكانت ترفع شعار: لن نعود من منتصف الطريق. لكن عندما قامت الثورة استبدلت موقفها وعادت من منتصف طريق التفاوض للمشاركة في الثورة".
وبالنسبة لـ"تيار نصرة الشريعة" الذي يجمع عدة أحزاب وحركات إسلامية، ويحذر اليوم من مساعٍ يقودها "الشيوعي" لفرض نموذج الدولة العلمانية في السودان، لا يرى محمود في هذا التيار سوى واجهة للثورة المضادة لأجل إعادة إنتاج وتدوير نظام البشير مرة أخرى. ويتساءل: أين كان هذا التيار طيلة 30 عاماً قضاها البشير في الحكم بقبضة من الحديد والنار، وأين كان والأخير يقدّم تنازلاته للغرب في حدود شرعية لم تكن مطبقة في الأساس؟
ولا تقتصر الانتقادات للحزب الشيوعي على هذا التيار، بل إن رئيس حزب الأمة القومي الصادق المهدي كان قد وجّه، في وقت سابق، انتقادات مبطنة للحزب بأنه يستخدم الصوت العالي للظهور كند لأحزاب ذات ثقل جماهيري داخل قوى "إعلان الحرية والتغيير". ويؤيد المحلل السياسي أحمد خيري ما ذهب إليه المهدي لتفسير التباينات التي يظهرها "الشيوعي" إزاء رفاقه في قوى الثورة "من خلال إثارة الكثير من الضجيج". ويقول خيري، لـ"العربي الجديد"، إن "الشيوعي يستعيض عن ضعف قواعده الجماهيرية بصيغة العمل ضمن أحلاف سياسية، وباتخاذ كثير من المواقف المغايرة لضمان تمثيل له يتناسب مع حجم الصوت وليس بمقدار الثقل الجماهيري المفقود بفقدان الدعم الدولي في أعقاب انهيار التجارب الشيوعية في العالم". ويرى أن "إصرار قادة الحزب على إطالة أمد الفترة الانتقالية، ورفض أي دعوات إلى تقليصها، يأتي مخافة اختبار قدرات الحزب في صناديق الاقتراع". ويعتبر خيري أن "الحزب الشيوعي يعمل على إقامة دولة علمانية عبر تجريم التجربة الإسلامية في السودان، ومن خلال العمل على فرض قانون لعزل الإسلاميين خلال المرحلة المقبلة".
يأتي ذلك في الوقت الذي أكدت فيه لجنة قانونية مشتركة شكلها المجلس العسكري وقوى "إعلان الحرية والتغيير"، أمس الاثنين، أنها أوشكت على الانتهاء من الصياغة القانونية للاتفاق السياسي بين الطرفين، الذي توصلا إليه فجر يوم الجمعة الماضي. وشمل اتفاق الجمعة تشكيل مجلس سيادي من 11 عضواً، 5 من العسكريين و5 من المدنيين، وعضو واحد يتم التوافق عليه، على أن يرأس المجلس في فترة 21 شهراً الأولى أحد العسكريين، ثم تؤول الرئاسة لشخصية مدنية في فترة 18 شهراً التالية. كما تضمن الاتفاق تشكيل مجلس وزراء بواسطة قوى "إعلان الحرية والتغيير" مع تأجيل تشكيل البرلمان الانتقالي. كما جرى الاتفاق أيضاً على تكوين لجنة تحقيق وطنية بشأن أحداث العنف خلال الفترة الماضية. وقال عضو اللجنة القانونية المشتركة المحامي نبيل أديب، لـ"العربي الجديد"، إن الصياغة التي يعكفون عليها، تهدف إلى تحويل الاتفاق السياسي إلى إطار قانوني، بما يشمل صلاحيات هياكل الحكم، المجلس السيادي ومجلس الوزراء. ويتوقع أن يتم التوقيع النهائي على الاتفاق بنهاية الأسبوع الحالي، بحضور عدد من الزعماء الأفارقة، في مقدمتهم رئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد.
وكما يفعل اليوم، فقد راهن الحزب الشيوعي دوماً على الشارع السوداني لحمل العسكر على الرجوع إلى ثكناتهم وإيلاء الأمر للمدنيين. وقد ظهر الموقف عقب مجزرة فض اعتصام القيادة العامة، في 3 يونيو/ حزيران الماضي، حيث ألقى باللائمة على المجلس العسكري وقوات الدعم السريع، بقيادة محمد حمدان دقلو، المعروف بحميدتي. وقال يومذاك، حاثاً على ديمومة الثورة: "أسقطناهم بقوة الثورة السلمية مرة وسنسقطهم ثانية وثالثة، ويقيناً لا يتطرق إليه الشك أن هذه الثورة العظيمة ستنتصر وتصل لغاياتها رغم كيد الأعادي في الداخل والخارج". ثم دعا، في بيان بعد الاتفاق الأخير، إلى ضرورة "استمرار وجود الجماهير في الشارع، حتى إنجاز التحول الديمقراطي وإلغاء كل القوانين المقيدة للحريات، وقانون الأمن، وحل كتائب الظل والدفاع الشعبي والمليشيات ووقف الترتيبات الأمنية، ووقف الحرب، واستعادة أموال وممتلكات الشعب المنهوبة والمحاسبة، وإبعاد الفاسدين من النظام البائد من قيادة الخدمة المدنية والقضاء والنائب العام والإعلام، وعقد المؤتمر الدستوري، بالإضافة إلى تحسين الأوضاع المعيشية التي تدهورت نتيجة للغلاء وارتفاع الأسعار، وشح الخبز والغاز والسيولة، والدواء، وتدهور خدمات المياه والكهرباء، وتحسين البيئة، والاستعداد للموسمين الزراعي والدراسي وتوفير مقوماته، وتوفير العلاج" للمواطنين.
ويبرز الحزب الشيوعي راهناً في المشهد الثوري عبر ثلاث صور، أولاها تتمثّل في موقفه الرافض لتمثيل العسكريين بصورة قطعية في الحكومة الانتقالية، أما الثانية فتحضر من خلال اتهام بعض مكوّنات قوى "إعلان الحرية والتغيير" لقوى من ضمنها "الشيوعي"، بالسعي للهيمنة على كيان الثورة. فيما يتمثل الظهور الثالث في استخدام الحزب من قبل مناوئيه والثورة المضادة على حد سواء، كفزاعة لإخافة الشعب من تطبيق نموذج علماني في الحكم يُقصي الشريعة الإسلامية ودعاتها من المشهد. وينشط الحزب الشيوعي في "الحرية والتغيير" من داخل تحالف "قوى الإجماع الوطني"، وهو كيان رئيسي في المعارضة رفض قادته في وقت سابق مسلك تحالف قوى "نداء السودان" بقيادة الصادق المهدي في لمّ الكيانات السياسية والحركات المسلحة في مجموعة واحدة. وسبق أن دخل "الشيوعي" في حرب بيانات مع أحزاب من بعض قوى الثورة، واتهمها بمحاولة إقصائه من المشهد، بعدم اصطحاب ممثليه في واحدة من جولات التفاوض مع المجلس العسكري.
ويأتي حراك الحزب راهناً ليشكل استكمالاً لمسيرة طويلة من الانخراط في العمل السياسي العلني والسرّي، إذ أدى أدواراً مهمة في المشهد السياسي في البلاد منذ أربعينيات القرن الماضي. وعلى الرغم من تواريه عن الأنظار لفترات غير قصيرة، بعد مطاردته دموياً من قبل الأنظمة الحاكمة، فإنه عاد بقوة إلى الساحة، منذ بدء المسيرات ضد الرئيس المخلوع عمر البشير أواخر العام 2018، وصولاً إلى مشاركته في التفاوض على انتقال السلطة اليوم. ويُعدّ الحزب الشيوعي السوداني واحداً من شيوخ أحزاب اليسار في المنطقة، وهو نشأ في العام 1946 باسم "الجبهة المعادية للاستعمار"، والتي جرى التعارف على تسميتها بـ"الحركة السودانية للتحرر الوطني" (حستو)، وذلك على يد طلاب تلقوا تعليمهم في مصر. وأدّى الحزب دوراً فاعلاً في ثورة أكتوبر/ تشرين الأول 1964 التي أطاحت الجنرال إبراهيم عبود، عبر سيطرة الحزب على العمل النقابي، بتفعيل الإضرابات والتظاهرات المنادية بزوال الحكم العسكري. وما زال الحزب مُصِراً على أن شرارة تلك الثورة أشعلها قتل الشرطة لأحد طلاب الحزب في جامعة الخرطوم، وهو أحمد القرشي، ما قاد إلى تنامي الغضب الشعبي وصولاً إلى الانتفاضة في العام 1964.
وتبرز أحاديث مستمرة عن ضعف القواعد الجماهيرية للحزب، وإن كانت معظم الآراء تبرر ذلك بانهيار الاتحاد السوفييتي وتحوّل الكثير من الأحزاب الشيوعية إلى تبنّي أفكار اشتراكية، إضافة إلى أن "الشيوعي" تعرض لمجزرة حقيقية ضد قياداته في يوليو/ تموز 1971 إثر فشل انقلاب الرائد المنتمي للحزب، هاشم العطا، في إطاحة جعفر النميري. وإثر ذلك قام الأخير بتصفية كامل الصف الأول للحزب، وفي مقدمتهم سكرتيره العام عبد الخالق محجوب، ورجل النقابات القوي الشفيع أحمد الشيخ. واضطر "الشيوعي" عقب صدمة يوليو 1971 إلى التخفي، ولم يظهر إلى العلن حتى بداية انتفاضة إبريل/ نيسان 1985 التي أطاحت النميري. وشارك في انتخابات العام 1986 وحصل على مقعدين داخل البرلمان. وقبل أن ينجح الحزب الشيوعي في إعادة بناء قواعده، عقب نكسة 1971، انقلب الجنرال عمر البشير وقادة الجبهة الإسلامية على حكومة الصادق المهدي في يونيو/ حزيران 1989، الأمر الذي أدى إلى تراجع الشيوعيين بقيادة محمد إبراهيم نقد، عن المشهد. ولم ينته ذلك إلا مع توقيع اتفاقية السلام الشامل مع "الحركة الشعبية لتحرير السودان" بقيادة جون قرنق في العام 2005. وبموجب الاتفاق مُثلت القوى المعارضة في الحكومة خلال فترة انتقالية استمرت لست سنوات.
وفي الفترة الأخيرة، أبان "الشيوعي" عن قدرات كبيرة بتسييره موكباً ضد نظام عمر البشير في 16 يناير/ كانون الثاني 2018، وهو ما يعتبره كثيرون أنه إحدى ركائز التصعيد الثوري التي قادت إلى انتفاضة ديسمبر/ كانون الأول 2018. وأصدر الحزب الشيوعي بياناً قبل أيام شدّد فيه على ضرورة اقتصار الحكومة الانتقالية على المدنيين، مع انتفاء أي وجود للمظاهر العسكرية، حتى في المجلس السيادي الذي جرى التوافق على تشكيله أخيراً.
وفي وقت يرى فيه كثيرون في موقف الحزب مخالفة لمواقف قوى "إعلان الحرية والتغيير" الباحثة عن صيغة للتوافق مع المجلس العسكري الانتقالي، بقيادة عبد الفتاح البرهان، يقول الصحافي المتخصص في شؤون أحزاب وحركات اليسار علاء الدين محمود، في حديث مع "العربي الجديد"، إن وجود الحزب ضمن منظومة "الحرية والتغيير" شكّل رقابة كبيرة حالت دون الانحراف والانجراف الثوري نحو الهبوط الناعم، إذ إن كثيراً من الرؤى تريد أن تقود الثورة السودانية للارتهان إلى العامل الخارجي، والبعض منها يرى أن ما تحقق كافٍ جداً، بينما وجود الحزب الشيوعي ضمن هذه المنظومة يشكّل ضمانة لاستمرار الثورة حتى تتحقق كل مطالبها. ويصف محمود الحزب الشيوعي بأنه يمثّل حالة فريدة في المشهد السياسي السوداني، فهو صاحب التأثير الأكبر، على الرغم من عدم استناده إلى قاعدة جماهيرية تضاهي الأحزاب التقليدية، وذلك لأن الحزب يجيد التغلغل داخل المجتمع والتأثير عليه بقوة الأفكار التي يطرحها. وحول ما إذا كانت هناك صراعات مُرحّلة بين مكونات قوى "إعلان الحرية والتغيير"، يرى محمود أن اختلاف الرؤى داخل التحالفات أمر طبيعي، إذ يملك كل حزب رؤيته في ما يتعلق بالحل، مضيفاً "في وقت سابق كانت بعض القوى في الحرية والتغيير تنادي بضرورة المشاركة في الانتخابات التي دعا إليها عمر البشير، وكانت ترفع شعار: لن نعود من منتصف الطريق. لكن عندما قامت الثورة استبدلت موقفها وعادت من منتصف طريق التفاوض للمشاركة في الثورة".
ولا تقتصر الانتقادات للحزب الشيوعي على هذا التيار، بل إن رئيس حزب الأمة القومي الصادق المهدي كان قد وجّه، في وقت سابق، انتقادات مبطنة للحزب بأنه يستخدم الصوت العالي للظهور كند لأحزاب ذات ثقل جماهيري داخل قوى "إعلان الحرية والتغيير". ويؤيد المحلل السياسي أحمد خيري ما ذهب إليه المهدي لتفسير التباينات التي يظهرها "الشيوعي" إزاء رفاقه في قوى الثورة "من خلال إثارة الكثير من الضجيج". ويقول خيري، لـ"العربي الجديد"، إن "الشيوعي يستعيض عن ضعف قواعده الجماهيرية بصيغة العمل ضمن أحلاف سياسية، وباتخاذ كثير من المواقف المغايرة لضمان تمثيل له يتناسب مع حجم الصوت وليس بمقدار الثقل الجماهيري المفقود بفقدان الدعم الدولي في أعقاب انهيار التجارب الشيوعية في العالم". ويرى أن "إصرار قادة الحزب على إطالة أمد الفترة الانتقالية، ورفض أي دعوات إلى تقليصها، يأتي مخافة اختبار قدرات الحزب في صناديق الاقتراع". ويعتبر خيري أن "الحزب الشيوعي يعمل على إقامة دولة علمانية عبر تجريم التجربة الإسلامية في السودان، ومن خلال العمل على فرض قانون لعزل الإسلاميين خلال المرحلة المقبلة".