لعلّ أفضل طريقة لولوج أعمال الشاعر الفرنسي هنري ميشو (1899 ـ 1984)، الذي حلّت منذ أيام الذكرى الثلاثين لرحيله، هي في قراءتها عبر موشور الحركة والاستكشاف، وبالتالي التأمل في مختلف المسارات التي أنجزتها.
طريقة تبيّن لنا كيف شكّل التنقّل وسيلة الشاعر المفضّلة لاكتشاف ذاته والعالم، وترجمة الوضع البشري إلى إيقاعات، وأراضٍ، ودروب نفسية. تنقّلٌ في الفضاء الجغرافي من خلال السفر، وفي الفضاء الذهني من خلال الخيال أو حلم اليقظة أو التشويش الداخلي المتعمَّد (بواسطة المخدّرات)، والتنقّل الشكلي من خلال الابتكار اللغوي والتشكيلي.
ما وضعنا على درب هذه القراءة هو ديوان لميشو بعنوان "تنقّلات إفلاتات"، أنجزه قبل وفاته بفترة قصيرة، وأصدرته "دار غاليمار" في شباط/ فبراير 1985، لتعيد طباعته حديثاً مع سائر أعماله. هل كان يشعر آنذاك بنهايته القريبة؟
مهما يكن الجواب على هذا السؤال، يأخذ عنوان الكتاب قيمة الوصية، فنقرأه كتعريفٍ نهائي لفعل الخلق، مباشرةً قبل الانتقال والإفلات الأخيرَين، أي الموت، الذي ما برح الشاعر يستبقه بواسطة الكتابة وحلم اليقظة والاغتراب المُتعمَّد. كما نرى في هذا العنوان رمزاً يختصر مسعى ميشو الشعري ككل.
فالكلمتان اللتان يتألف منهما تستحضران، بتجاورهما الفجّ في ظاهره، عناوين دواوين عديدة له، مثل "امتحانات تعزيمات"، "انبثاقات عودات"، "طُرُق نائم طُرُق مستيقظ". تجاورٌ يخلق بين عبارتَي كلّ من هذه العناوين توتّراً، حقل قوى، حقلاً مغناطيسياً، وبالتالي فضاء جاذبية يتحرّك فيه شيءٌ ما ويتحرّر.
ومن جهةٍ أخرى، يأتي هذا العنوان ليتوّج سلسلة طويلة من الأعمال التي وضعها ميشو ضمن دلالة الحركة، مثل "المكان الآخر"، "معابر"، "اللانهائي العاصف"، "الليل المحرِّك"، "مسارات"، "عن طريق الإيقاعات". وبالتالي، يعرّف هذا العنوان بطريقةٍ ما، وللمرة الأخيرة، بما سبق وكرّرته عناوين الشاعر الأخرى، ويدعونا إلى إعادة قراءة جميع مساراته، ملخّصاً مشروعه ومانحاً إيانا مفتاحاً لفهم تنوّع ابتكاراته وأشكاله.
وسواء تنقّل ميشو في الفضاء الجغرافي (أوروبا، أميركا، أفريقيا الشمالية، تركيا، الهند، التيبت، اليابان، ماليزيا، إلخ..)، أو الخيالي (مناطق طوباوية خرافية)، أو في فضاء العلامات والمعنى ـ كتابةً ورسماً؛ فإن الأمر معه يتعلّق دائماً بتنقّلٍ في "فضاء الداخل"، نحو الأكثر حميمية، الأكثر سرّية، نحو ما يسمّيه الشاعر "الدواخل البعيدة". لكن كل تنقّل هو أيضاً استخلاص، وبالتالي استخراج معنى مدفون، بحث عن "سرّ كبير"، وتحرُّر من إكراه. وهنا يكمن الجانب السحري في عمله.
فكتابته الرؤيوية تهدف إلى التدخّل في الكينونة، وهي في جوهرها متحرّكة ومحرِّكة. هذا ما يشير الشاعر إليه في قوله في ديوان "معابر": "أكتب كي أجوب نفسي. أرسم، أشكّل، أكتب: أجوب نفسي. هنا تكمن مغامرة أن نكون أحياء".
وفي هذا السياق، تبدو تنقّلات ميشو متعددة الأشكال ناتجةً عن صعوبة في الكينونة؛ تعكس هذه الصعوبة، وفي الوقت ذاته، تحاول تصحيحها. لكنها لا تقدّم حلاً نهائياً، بل جواباً إيقاعياً، لكونها مثابرة مستمرة على السير لإنسان لا يهاب شيئاً أكثر من الجمود والثبات، ومع ذلك، يبحث، أبعد من تنقّلاته الدائمة، عن إفلاتٍ يسمح له بالرضوخ أخيراً، ويقيمه بشكلٍ ثابت في الابتعاد.
وهذا بالتحديد موضوع قصيدة "وضعيات" التي يختم بها ديوانه الأخير. قصيدة نستشفّ فيها نبرة "شرقية" جداً، لاستحضارها سكينةً وتحرّراً وتوازناً، وهي صفات تتناقض مع حالات الانقسام والقلق والخلل النفسي التي يعاني منها الإنسان الغربي. قصيدة تبيّن لنا كم كان ميشو يتوق، في نهاية حياته، إلى إفلاتٍ عظيم يحرّره من ذاته ويُنهي حالة انفصاله عن العالم.
من أعمال الشاعر التشكيلية |
وهل يقوم الشِعر بشيءٍ آخر، لبلوغ نفسه والاستمرار داخل تلك الرغبة التي ينبثق منها، غير الإفلات من نفسه كفنٍّ؟ لقد شاهدناه، على مرّ العصور، يتحرّر من البلاغة والأيديولوجيا بتوقّفه عن التشكّل كخطاب أخلاقي، وينعتق من زخارف الأسلوب، من الأجناس، ومن القياس بتحوّله إلى شعر حرّ، إلى نثر شعري، أو إلى قصيدة نثر. وحتى حين يحافظ على الإكراه الشكلي، أليس أيضاً لإضعاف هذا الإكراه وتخريبه، عبر تحويله؟ يرى بول سيلان في الشعر النفَس المقطوع للفن.
وهذا ما نستنتجه في كتابة ميشو، أسلوب "النَّفَس القصير"، "النَّفَس المقطوع". جمالية تتأكد من المهمة التي حدّدها الشعر لنفسه: حشد طاقات الإنسان، مباغتة معارفه وأفكاره، بعثرته وتركيزه... وهي تجربة خلقٍ بدأت تأخذ ملامحها مع بودلير، وما برحت تدفع في اتجاهٍ راديكالي مغامرة الشعر الحديثة التي ارتقى ميشو بها إلى أوجها بتحديده مهمة العمل الشعري في التنقّل والإفلات، الأمر الذي استشعره رامبو، لكنه لم يتمكن من تحقيقه إلا بتواريه في إثيوبيا.
هذه هي الشعرية التي سعى هنري ميشو إلى عزل جوهرها: تسريع الكلام وتثوير اللغة، واعتماد كتابة عاصفة، ملتهبة ومُلهِبة، دائماً في حالة تقدّم ـ أو تأخُّر ـ عمّا تقوله. شعرية هي عبارة عن لغة غير راضية، تستمدّ جمالها من عدم رضاها، وكتابة يتوجّب عليها أن تتنقّل كثيراً كي لا تستخلص في النهاية سوى ذلك الشعور بقصورها.