وحدها الدراسات والإحصاءات الموثوقة قادرة على لجم السياسيين والحدّ من "هرجلة" سياساتهم وتصريحاتهم المتعلقة بـالشأن البيئي عموماً وبشأن الموارد الطبيعية والمياه خصوصاً. في الآونة الأخيرة، اتخذت مشكلة مياه النيل عمقاً جديداً قد يؤثر في اقتصاديات دول الحوض وعلاقاتها مع بعضها بعضاً، لا سيّما بعدما أصبحت الأطماع الإسرائيلية في مياه النيل واقعاً تؤكده محاولات تعديل الاتفاقيات القائمة. لكنّ الإعلام الرسمي لم يتناول المشكلة بحسب المتوقع، فأتت معالجته لها خالية من إحصاءات دقيقة وتوقعات دقيقة وعلمية لما سوف يأتي، وبقيت في "خانة التهريج والسطحية" مع محاباة هذا الجانب ومعاداة ذاك.
النيل وأحواض الأنهار الدولية الأخرى، بحسب ما يورد الصادق المهدي في كتابه "مياه النيل.. الوعد والوعيد"، "صارت محل اهتمام دولي كبير من حيث إحصاء المعلومات عنها، وتوفير المال والتقنية لتطويرها، وتشريع الأحكام للعدل في توزيع مواردها، وإيجاد وسائل عادلة لفض المنازعات فيها". يضيف أنّ "القيادات السياسية العليا في دول حوض النيل لا تمارس اجتهاداً سياسياً لإيجاد حل شامل لمسألة مياه النيل والمستويات التنفيذية والإدارية والفنية (...) لذلك ظلت شؤون مياه النيل من ناحية الدراسات والتعاون الفني محدودة بسقف سياسي يحصر تطوّرها".
وتكمن المشكلة في التدخّل السياسي الذي تزايد حتى أصبح الجميع متهماً بـ"تسييس الأمر". إن قام أحد الخبراء بإيراد معلومات وإحصاءات ما، يذهب المعسكر الثاني ليدحض المعلومات متهماً موردها بعدم الدقة، وربما بـ"العمالة" لجهة ما. تجدر الإشارة إلى أنّه حين كتبتُ في هذه الزاوية عن مخاطر سدّ النهضة على دولتَي المصب، تصدّت لي أقلام بلا أسماء على موقع إلكتروني سوداني، راحت تتهمني بالعمالة لمصر على الرغم من أنّني كنت حينها قد أوردت مصادري من الخبراء في المجال. وما هي إلا شهور، حتى عضّد أحد الخبراء - المرضي عنهم سياسياً - ما جاء في مقالي ذاك ولم يجرؤ أحد على اتهامه. الدوائر السياسية كانت قد تبنّت ذلك الرأي.
إلى ذلك، نقل الدكتور عبد الرزاق بني هاني عن جون سويني أحد مهندسي "علم الجهل" أنّ مستهلكي سلعة الجهل هم الفقراء والمتدينون وفئة الفنيين (التكنوقراط) الذين يقدّمون النصح والمشورة لمتخذي القرار في دولهم. وذكر أنّ هؤلاء يتلقون تدريباً على تمرير الجهل وتبريره تحت مسمى النظرية والعلم والإمكانيات والموارد، ويأتي في مقدمّتهم المعنيون بالشأن السياسي والاقتصادي الذين تنحصر مهامهم في بثّ روح اليأس في نفس صاحب القرار حول إمكانية الإصلاح، وفي ترسيخ الأكاذيب في أذهان العامة على أنّها حقائق لا بدّ من أن يدافعوا عنها. وقد ثبت أنّ ثمّة مؤسسات تابعة لحكومات دول عظمى متخصصة في هندسة الجهل وصناعته وتغليفه بأرقى الأشكال ثم تسويقه على نطاق واسع.
*متخصص في شؤون البيئة