03 مارس 2022
هنا فلسطين من مخيم اليرموك
سنوات طويلة راحت، لكنه ظل محفورا في أخاديد الذاكرة، غائرا في الوجدان مثلما هي فلسطين. هو المخيم الذي ركضت في حواريه، لعبت في ساحاته، وتشربت الوطن في أزقته. هنا كان اللقاء الأول مع "صوت فلسطين، صوت الثورة الفلسطينية، مجدّداً عهده على مواصلة مسيرة الثورة: بالكلمة الأمينة، المعبّرة عن الطلقة الشجاعة، وبالجماهير العربية معبّأة ومنظّمة ومسلّحة، وبالحرب الثورية طويلة الأمد أسلوباً، وبالكفاح المسلّح وسيلة، حتى تحرير فلسطين كل فلسطين".
مقابل "الإعاشة"، مركز توزيع المؤن التابع لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين "أونروا"، وما بين جامع فلسطين ومقبرة الشهداء كانت دارنا، ودور جيراننا. تتعالى أصواتنا وضحكاتنا، تسبق خطواتنا ونحن نجري على سور "الإعاشة"، نسابق الفرح، غير مبالين بالوقت أو الطقس. نخطو، في الصباح الباكر، بالفرح ذاته نحو المدرسة. وعبر المسافة بين باب البيت ومدرسة الجرمق الابتدائية، ثم مدرسة القسطل الإعدادية، نطالع سطور الشارع كما تُقرأ الكتب. هنا مقهى طبريا، وعلى بعد خطوات جامع فلسطين، ثم فرن أبو فؤاد، وصولاً إلى شارع المدارس، حيث أجيال من أبناء الشعب الفلسطيني المنكوب تتزاحم على طلب العلم، وعربات الفول المسلوق.
في مخيم اليرموك، تتشكّل أبجدية فلسطين، هنا حارة الطيرة حيث يعمل أقارب أبو العباس نهاراً في ورشات الدهان، ويتجمعون ليلاً في المقهى، ليتحدثوا في القضية وشؤون جبهة التحرير الفلسطينية، التي يتزعمها ابنهم. وليس بعيدا أهالي لوبية والجاعونة. وما بين مدرستي ترشيحا الابتدائية والمنصورة للبنات يتجمع أبناء صفورية الذين احتكروا مهنة الختان، وتناقلوها جيلاً بعد جيل.
في شوارع المخيم، وعلى واجهات الدكاكين، بُعثت فلسطين التاريخية، بقالة عكا، وحلاق يافا، وملحمة الناصرة. تلونت الجدران بصور الشهداء وشعارات الثورة. كانت فلسطين حاضرةً في المخيم، في أسماء الشوارع والمدارس والمساجد والناس. كان المخيم "حيطبوك" مفتوحاً، نقرأ على جدرانه بيانات وشعارات وملصقات تلخص مجريات الأحداث في العالم، هنا تحية للشعب الكوبي وشعوب الكتلة الشرقية، وهناك "لا صلح لا استسلام لا مفاوضات"، وبينهما دعوة إلى تطعيم الأطفال ضد الرجعية العربية، في تنبهٍ واعٍ ومبكر إلى أن الرجعية أخطر على أطفال المخيم من الحصبة أو الشلل.
قرأنا الجدران، قبل الكتب والبيانات، حفظنا البرامج السياسية للتنظيمات والفصائل قبل قصائد الغزل، تكوّنت ثقافتنا في مظاهرات الغضب، ومسيرات التأييد. في المخيم، يبدأ العيد بمسيرة مشاعل وزهور نحو مقبرة الشهداء، وينتهي الفرح بجنازة شهيد. يبدأ اليوم الدراسي بنشيد فدائي، وتطغى ذكرى انطلاقة حركة فتح على ميلاد السيد المسيح، حتى أغنيات المراجيح في ساحة العيد كانت فلسطينية. كل الأزمان هنا بتوقيت فلسطين. كنا نسمع في سينما النجوم خطابات ياسر عرفات، وجورج حبش، وكان فينا من الجَلد ما يكفي لسماع خطابات نايف حواتمة التي تنافس أطول فيلم هندي. في مقبرة الشهداء، يرقد أبو جهاد إلى جانب فتحي الشقاقي، وبينهما ضريح الشهيد المجهول. في شوارع المخيم وساحاته يُعود الشهداء أحياء بصورهم وأسمائهم.
يسأل بعضهم عن سيرة مخيم اليرموك، وكأنه لا يعلم شيئاً، عن "خزّان الثورة". كان ذلك في أيامي الأخيرة في المخيم، في أثناء الغزو الإسرائيلي للبنان. عندها أطلقنا في المخيم إذاعة سلكية لنقل أخبار المعركة إلى أهل المخيم. كانت البرقيات تصل إلينا من مكتب العمليات، مكتب الشهيد سعد صايل (أبو الوليد)، نقرأها لتصل عبر السماعات إلى الناس ممزوجة بأغاني الثورة، وأشعار محمود درويش وإبراهيم طوقان وأبو سلمى. آنذاك، خاطب القائد الراحل أبو عمار مخيم اليرموك بوصفه "خزان الثورة" الذي لا يجفّ، طالبا المدد، فلبى مخيم اليرموك النداء من شريان دمه، ومزهرية شبابه.
قرأت أمس نعي مخيم اليرموك. أعلن أحدهم موت المخيم، رأيت على الإعلام صور الدمار والخراب الذي حل بالمخيم. غلبتني الدموع، وأنا أحاول تلمس ما تبقى من عاصمة الشتات الفلسطيني. قهرني الحزن، وأنا أقلب جثث الحواري والأبنية الخالية. شريط طويل من الذكريات اشتعل في رأسي، وأنا أرى أيادي الغدر تغتال فلسطين مجدّداً.
مقابل "الإعاشة"، مركز توزيع المؤن التابع لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين "أونروا"، وما بين جامع فلسطين ومقبرة الشهداء كانت دارنا، ودور جيراننا. تتعالى أصواتنا وضحكاتنا، تسبق خطواتنا ونحن نجري على سور "الإعاشة"، نسابق الفرح، غير مبالين بالوقت أو الطقس. نخطو، في الصباح الباكر، بالفرح ذاته نحو المدرسة. وعبر المسافة بين باب البيت ومدرسة الجرمق الابتدائية، ثم مدرسة القسطل الإعدادية، نطالع سطور الشارع كما تُقرأ الكتب. هنا مقهى طبريا، وعلى بعد خطوات جامع فلسطين، ثم فرن أبو فؤاد، وصولاً إلى شارع المدارس، حيث أجيال من أبناء الشعب الفلسطيني المنكوب تتزاحم على طلب العلم، وعربات الفول المسلوق.
في مخيم اليرموك، تتشكّل أبجدية فلسطين، هنا حارة الطيرة حيث يعمل أقارب أبو العباس نهاراً في ورشات الدهان، ويتجمعون ليلاً في المقهى، ليتحدثوا في القضية وشؤون جبهة التحرير الفلسطينية، التي يتزعمها ابنهم. وليس بعيدا أهالي لوبية والجاعونة. وما بين مدرستي ترشيحا الابتدائية والمنصورة للبنات يتجمع أبناء صفورية الذين احتكروا مهنة الختان، وتناقلوها جيلاً بعد جيل.
في شوارع المخيم، وعلى واجهات الدكاكين، بُعثت فلسطين التاريخية، بقالة عكا، وحلاق يافا، وملحمة الناصرة. تلونت الجدران بصور الشهداء وشعارات الثورة. كانت فلسطين حاضرةً في المخيم، في أسماء الشوارع والمدارس والمساجد والناس. كان المخيم "حيطبوك" مفتوحاً، نقرأ على جدرانه بيانات وشعارات وملصقات تلخص مجريات الأحداث في العالم، هنا تحية للشعب الكوبي وشعوب الكتلة الشرقية، وهناك "لا صلح لا استسلام لا مفاوضات"، وبينهما دعوة إلى تطعيم الأطفال ضد الرجعية العربية، في تنبهٍ واعٍ ومبكر إلى أن الرجعية أخطر على أطفال المخيم من الحصبة أو الشلل.
قرأنا الجدران، قبل الكتب والبيانات، حفظنا البرامج السياسية للتنظيمات والفصائل قبل قصائد الغزل، تكوّنت ثقافتنا في مظاهرات الغضب، ومسيرات التأييد. في المخيم، يبدأ العيد بمسيرة مشاعل وزهور نحو مقبرة الشهداء، وينتهي الفرح بجنازة شهيد. يبدأ اليوم الدراسي بنشيد فدائي، وتطغى ذكرى انطلاقة حركة فتح على ميلاد السيد المسيح، حتى أغنيات المراجيح في ساحة العيد كانت فلسطينية. كل الأزمان هنا بتوقيت فلسطين. كنا نسمع في سينما النجوم خطابات ياسر عرفات، وجورج حبش، وكان فينا من الجَلد ما يكفي لسماع خطابات نايف حواتمة التي تنافس أطول فيلم هندي. في مقبرة الشهداء، يرقد أبو جهاد إلى جانب فتحي الشقاقي، وبينهما ضريح الشهيد المجهول. في شوارع المخيم وساحاته يُعود الشهداء أحياء بصورهم وأسمائهم.
يسأل بعضهم عن سيرة مخيم اليرموك، وكأنه لا يعلم شيئاً، عن "خزّان الثورة". كان ذلك في أيامي الأخيرة في المخيم، في أثناء الغزو الإسرائيلي للبنان. عندها أطلقنا في المخيم إذاعة سلكية لنقل أخبار المعركة إلى أهل المخيم. كانت البرقيات تصل إلينا من مكتب العمليات، مكتب الشهيد سعد صايل (أبو الوليد)، نقرأها لتصل عبر السماعات إلى الناس ممزوجة بأغاني الثورة، وأشعار محمود درويش وإبراهيم طوقان وأبو سلمى. آنذاك، خاطب القائد الراحل أبو عمار مخيم اليرموك بوصفه "خزان الثورة" الذي لا يجفّ، طالبا المدد، فلبى مخيم اليرموك النداء من شريان دمه، ومزهرية شبابه.
قرأت أمس نعي مخيم اليرموك. أعلن أحدهم موت المخيم، رأيت على الإعلام صور الدمار والخراب الذي حل بالمخيم. غلبتني الدموع، وأنا أحاول تلمس ما تبقى من عاصمة الشتات الفلسطيني. قهرني الحزن، وأنا أقلب جثث الحواري والأبنية الخالية. شريط طويل من الذكريات اشتعل في رأسي، وأنا أرى أيادي الغدر تغتال فلسطين مجدّداً.