هل يُفطِر أكل البلغم؟

06 يوليو 2015
+ الخط -
مبدئياً، أنا آسف جداً لأن هذا العنوان أصابك بالقرف، لكنني أرجوك ألا تتسرع، فيدفعك قرفك إلى أن تظن أنني ألفته من عند نفسي، لكي أسخر عامداً من ظاهرة الفتاوى التي يطلبها، وبإلحاح شديد، عشرات الآلاف كل يوم، عبر وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية والمشمومة، فحاشا لله أن أفتري أو أعبث في موضوع كهذا، ولو بحسن نية. لذلك، يشهد الله أن هذا السؤال الذي أقرفك عن حكم أكل الصائم للـ.. لا تخف لن أذكر اسمه ثانية، بل سأسميه الغيمو، أليس هذا أفضل وألطف؟
طيب، أقسم لك أن هذا السؤال الذي أزعجك، شاهدته بأم عيني في برنامج فتاوى شهير، كان يذيعه التلفزيون المصري منذ سنين، ظهر كل يوم من أيام رمضان، وقد تلقّاه يومها الشيخ عطية صقر رحمه الله، والذي لم يتوقف عند السؤال، ولو لحظة، بوصفه سؤالاً غريباً يسمعه أول مرة، بل أجاب باستفاضة، وكأنه سؤال طبيعي لا يستحق أي اندهاش، لم ألُم يومها الشيخ عطية على استفاضته في الإجابة، ولن ألومه الآن بعد كل هذه السنين على رحيله، فقد كان الرجل يؤدّي واجبه في الإفتاء لكل من يسأله، أياً كان ما يسأله، تأدية لواجبه.
لكن، وبما أنني لم أقابل في حياتي كثيرين من هواة أكل الغيمو، سوى زميل دراسة في المرحلة الابتدائية، كان يحب أكل إفرازات أنفه في الشتاء القارس. لذلك، لم أستوعب أن تكون مشكلة الغيمو جدية إلى درجة تؤرق بال أحد المسلمين، وتثير قلقه بشأن صحة صيامه، لدرجة أنه قرر أن يشرك المسلمين كافة في حيرته، من دون أن يعمل حتى بالمبدأ الشرعي "إذا بُلِيتم فاستتروا"، لكن ولكي لا أظلم ذلك "السائل الكريم عن حكم أكل الصائم للغيمو"، افترضت أنه فعل ذلك لأنه لاحظ أن ظاهرة أكل الغيمو صارت منتشرة حوله للتحايل على محظورات الصيام، فأحب أن يقطع على أولئك العصاة باب المعصية، ويسدّ عليهم طريق الغيمو، ويجبرهم على الالتزام بالصيام وآدابه، ولذلك أرسل طالباً الفتوى المستعجلة.
من جهة أخرى، فسّرت رد الشيخ عطية، رحمه الله، على ذلك السؤال بشكل مستفيض، بأنه صادفه كثيراً في مشواره الحافل. ولذلك، فهو لم يلُم مرسله على إرساله، ولم يسمح لقرفه الشخصي من الغيمو أن يغلبه، فقام، في إجابته المستفيضة، بتوجيه السائل الكريم إلى التفريق بين أكله للغيمو خطأ وسهواً، وهو ما لن يؤثر على صحة صيامه، وبين تعمده أكله عن سوء قصد وخبث طوية، وهو ما يجعل صيامه باطلاً، وأرجو ألا تظن بي السوء وتحسب أنني أفتري على الرجل، فأقسم لك بالله غير حانث، أنني أنقل لك رد الشيخ كما شاهدته، وليغطني غيمو الدنيا كلها، إن كنت كاذباً أو هازلاً.
ربك والحق، لم أجرؤ على وضع نفسي مكان الشيخ عطية صقر، فأعتب عليه رده المستفيض الجاد على سؤال تافه كهذا، أو أتمنى منه رداً حازماً يوقف سائلي مثل تلك الأسئلة عند حدودهم، بل إنني لم أتخيل أصلاً تصرفي لو كنت مكانه، فحاشا لله أن يصاب مسلم في عقله، فيقرر أن يستفتيني عن أكل المولتو، فضلاً عن أكل الغيمو، لكنني كنت يومها بالمصادفة الرمضانية، أقرأ كتاباً للشيخ محمد الغزالي، يشكو فيه مر الشكوى من ولع المسلمين بفتاوى غريبة، مثل التي سألها ذلك السائل آكل الغيمو، فيستغرق أحدهم في التساؤل عن كيفية مسح الرأس، أكثر من انشغاله بمن يرغب في قطع الرأس كله، على حد تعبير الشيخ الغزالي، ولذلك تخيّلت أن الغزالي كان لا محالة سيلقي على ذلك السائل درساً بليغاً، عن الترتيب السليم لأولوياته في القلق، بحيث يتراجع قلقه من أكل الغيمو، ليقلق أكثر على عقله واستقلال بلاده وحريتها ومصيرها المظلم، لكن للشيوخ في ما يفتون مذاهب، ولا يمكن أن تلوم الشيخ عطية، لأنه لم يرد سائله عن أكل الغيمو، ربما لأنه خشي أن يظن السائل في تجاهله لسؤاله، تحبيذاً لأكل الغيمو والاستمتاع به لتسلية صيامه.
لا أريد أن أصنع من الحبة قبة، وأتخذ من ذلك السؤال دليلاً على الحالة العقلية المزرية لأمتنا، والتي تشمّت بنا الأعداء والحاسدين، فليس في أكل مخلفات الأنوف والحناجر ما يمنع التقدم حتماً، وقد يصلح شأن أمة مع رداءة ما تأكله، كما انصلح شأن بعض الشعوب الآسيوية التي تأكل الكلاب والسحالي والثعابين والصراصير والحشرات، وغيرها من المأكولات التي لا تفرق عن الغيمو كثيراً والعياذ بالله.
ونكمل حديثنا في الغد، بإذن الله، بعد أن يكون قد هدأ قرفك من سيرة البلغم، أقصد الغيمو.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.