قبل أكثر من 50 عاماً، في عام 1964 تحديداً، كتب الخبير والكاتب الكندي مارشال ماكلوهن في كتابه (فهم الإعلام) أن الإعلام سيؤثر على نمط حياة الإنسان الذي سيعيش في العصر الرقمي، وأن نمط حياته سيكون أشبه بالبداوة في سعيه واستفادته من "المعلومات".
بعده بثلاثين عاماً جاء جاك آتالي الفرنسي وتنبأ بأن العالم سينقسم إلى ثلاث فئات: ستكون هناك نُخبة تُسمى Hypernomaden تعيش حالة من البداوة المُفرطة، وفئة "البدو الافتراضيين"، وفئة أخرى تعيش بداوة منقوصة.
هذا الكلام لم يعد مُجرد نظريات وتنبؤات، فـ "البدو الرقميون" باتوا ينتشرون في العالم بشكلٍ لم يسبق له مثيل والمؤسف أن عالمنا العربي الذي يتميّز بالصحارى والبداوة، فإن أبناءه لا يكادون يعرفون شيئاً عن "البدو الرقميين"!
من هو البدوي الرقمي؟
البدوي الرقمي، لا يعرف الخيام ولا الجمال، ولكنه إنسان لم يستسلم لما حوله من مفاهيم "حَضريّة" تكاد تكون مفهومة ضمناً بالنسبة لنا جميعاً، كأن ينهي دراسته في جامعة ما، يتخرج بعلامات جيّدة تضمن له الانخراط في شركة "مُحترمة" ثم يبدأ بالاستيقاظ يومياً للعمل كُل يوم من شروق الشمس لينتهي مع الغروب أو قبله بقليل، وينتظر نهاية الأسبوع على أحرّ من الجمر، كي يحظى بالقليل من الوقت لنفسه، والأهم من كُل ذلك أنه قرر اعتناق أسلوب حياة وعمل، يضمن له المزيد من الحُرية والسعادة بالاعتماد على وسائل التواصل الإلكتروني في تحقيق مصدر دخل يضمن له حياة كريمة، بغض النظر عن مكان وجوده!
وكما أن بيت البدوي خيمته التي ينصبها حيث تيسّر الكلأ والماء، فإن "البدوي الرقمي" ينصب "خيامه" أينما وجد خدمة Wi-Fi وإنترنت، حيث يرتزق على التجارة بخدمات "معلوماتية" أو رقميّة كما تُسمى أحياناً من خلال مكتبه الذي يحمله على ظهره، وهو حاسوبه الشخصي الذي يربطه بالعملاء من مُختلف أنحاء العالم.
والبدوي الرقمي، إنسانٌ مولعٌ بالحرية، فهو لا يُريد أن يتسلّط عليه أحد، هو لا يُريد مديراً يُملي عليه متى يستيقظ للعمل ومتى يُغادر، بل يعمل متى يحلو له العمل، والأهم أنه يرى العالم كُله وطناً له، فعندما تغطي الثلوج مدينة برلين، فإنه ينتقل للعيش لبضعة أشهر في نيبال أو تايلاند أو ربما في المكسيك!
بالنسبة للبدوي الرقمي، فإنه يؤمن أن الحياة أجمل من أن نقضيها بين 4 جُدران، ولا بُد لنا أن نكتشف العالم الجميل، وما دام الإنترنت يُتيح لهم العمل من كُل مكان، فلماذا لا يتنقلون في هذا العالم؟
My Wireless Life
في ألمانيا مثلاً، توجد اليوم رابطة البدو الرقميين من خلال موقع My Wireless Life وهو موقع شبيه من حيث الفكرة بمواقع التواصل الاجتماعي كالفيسبوك وتويتر ولكنه للبدو الرقميين الألمان حيث يتبادلون فيه الخبرات في ما يخص العمل الحُر من خلال الإنترنت من كُل مكان في العالم.
هكذا روابط باتت تُتيح للخبراء والمغامرين من "البدو" أن يجلسوا في "خيمة واحدة" مثل موقع تواصل كهذا ويتداولوا في القضايا التي تخصهم، كما يؤكد أحد أعضاء الرابطة ويدُعى "يوناس" فيقول: "لطالما كان لدي اهتمام بالحياة والعمل من مُختلف أنحاء العالم ولكن لم يكن من السهل التواصل مع أشخاص من نفس التوجه، فالنقاشات والمدونات التي تنشر حول الموضوع في الإنترنت عادة ما تكون سطحية ولكن من خلال روابط كهذه يُمكن التواصل مع "بدو رقميين" حقيقيين وذوي تجربة ممتازة ومُحفزة".
نماذج "ألمانية"
"كوني" مثلاً، ألمانيّة قررت أن تترك وظيفة في شركة ألمانية لأنها لا تُريد أن تشعر بأن أحدهم يستعبدها ويضطرها للعمل من 9 حتى الخامسة مساءً كُل يوم، ولا يمنحها إلا 22 يوماً عُطلة، لهذه الأسباب "فقط" قررت أن تعيش حياتها كبدويّة رقمية تتنقل في أنحاء العالم المُختلفة، وهي تعمل اليوم في تقديم الاستشارات في موضوع السفر وكذلك في التدوين والتسويق وقد أصدرت مُؤخراً كتاباً يحكي تجربتها مع البداوة الرقمية وقد قامت مع نُشطاء آخرين بإطلاق مؤتمر للبدو الرقميين في ألمانيا حظي بحضور ممتاز.
"سيباستيان" مثلاً، قرر عام 2014 أن يُنهي كل العقود التي أبرمها ليتفرغ لتطوير مشاريع من شأنها النهوض بالمجتمع البدوي الرقمي، وقد استطاع خلال هذه الفترة بتأليف كتاب إرشادي من 400 صفحة، يشرح فيها عن البداوة الرقمية بشكل معمق كما يُخصص فصولاً كاملة عن الاستقلالية المالية، الفكرية، المكانية والزمانية كما يُقدم النصائح العملية في كيفية الشروع بالعمل وبشكل قانوني من خلال التسجيل لدى غرفة الصناعات الحرية وأمور الضريبة وما إلى ذلك، وينتهي الكتاب بفصل خاص يُرشد القارئ كيف يُمكنه أن يستعد للرحلة التي سيترك فيها بلده -ألمانيا - كي يبدأ رحلته الحقيقة مع الاستقلالية المكانية، للعمل من كل مكان حول العالم!
هل يعود العرب للبداوة؟
في عالمنا العربي اليوم هُناك وعي متنامٍ في ما يخص العمل الحر من خلال الإنترنت، ففي موقع مُستقل للعمل الحر يوجد حالياً أكثر من 170 ألف عامل مستقل يعملون في مجالات مُتعددة أو حتى في موقع "خمسات" للخدمات المصغرة التي تبدأ من 5 دولارات فقط، والتي يُقدمها طلاب جامعات ومُستقلون من جميع أنحاء العالم العربي، وبعضهم مقيم في بلاد أجنبية للدراسة أو لغير ذلك ويجنون الأموال من خلال تقديم هذه الخدمات وغيرها من أي مكان في العالم.
ومن يدري، لعلنا نشهد قريباً مجتمعاً عربياً للبدو الرقميين، ممن جعلوا حواسيبهم مكاتب يحملونها على ظهورهم، ويتجوّلون بها عبر العالم، على خطى أجدادهم ابن جُبير وابن بطوطة.
(فلسطين)