هل يتساوى أينشتاين والحويني؟

15 مارس 2020
+ الخط -
بعد اعتذار الداعية السعودي عائض القرني، عن ترويجه أفكاراً متشدّدة، وتراجع الداعية (والباحثة) سعاد صالح، عن فتوى "معاشرة البهائم"، اعترف الداعية المصري أبو إسحاق الحويني، بأنه خدع الشباب، وجنا على الناس بجهله الأحكام الشرعية في الإسلام في بدايات مشيخته. ولكن الشيخ لم يفسّر كيف أضر بالعباد، ولم يُحدّد الفتاوى والكتب التي أخطأ فيها، ولم يرصد الأحاديث الضعيفة التي استدلّ بها. اكتفى بتصريحاتٍ عامة لا تقدّم ولا تؤخر، وترك الباب مفتوحاً على تساؤلات عدة: هل ندم على تحليله تحريق البشر، وغزو بلاد غير المسلمين، وسبي نسائهن وبيعهن في سوق النخاسة؟ هل ما زال يؤمن بأن وجه المرأة كفرجها يجب تغطيته، وعملها حرام يجعلها عبدة للرجال، وإرضاعها الرجال حلال، وختان الإناث سنة مؤكدة؟ هل تراجع عن فتوى عقوبة تارك الصلاة، والمرتدّ بقتله ثم أكله من دون طهي، ومن دون إذن الحاكم؟
عمّ ندم الحويني بالضبط؟ لم تأت اعترافاته بغرض تصحيح "أخطائه"، بقدر ما أُراد بها تبرئة الموروث الفقهي من مسؤوليته عن أبشع الجرائم التي ارتكبتها باسم الإسلام منظمات إرهابية، وفي مقدمها تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وجبهة النصرة والقاعدة، فالشيخ يعزو الضرر 
الجسيم الذي ألحقته فتاواه بالمسلمين وغير المسلمين إلى طيش شبابه، ولا يشكّك في النصوص التي استند إليها ونهل منها ملايين المسلمين من قبله، فحتى إن أصدر اليوم فتوى تحرّم تحريق البشر وتجرّمه، فإن هذا الفعل الهمجي برّره "داعش" استناداً إلى أحاديث في "صحيح البخاري" و"صحيح مسلم" وكتب ابن تيمية، وغيرها من منابع التراث الإسلامي. ولذلك، على من يواصل الهجوم على الحويني وشيطنته ألا يقع في فخ الشجرة التي تخفي الغابة، فأخطاؤه من أخطاء منسوبة للبخاري ومسلم وابن تيمية وغيرهم من رواة أحاديث تتنافى أحياناً مع ما جاء في القرآن، وتطعن في أخلاق نبي الإسلام، وتُشيع في مجتمعاتنا الفساد الأخلاقي بشتى أنواعه.
فضح "داعش" والشبكة العنكبوتية المستور من جذور هذا الموروث، واستنكر العالم جرائم ناس مسلمين، على نحو جعل ملك السعودية، سلمان بن عبد العزيز، يأمر شيوخ الوهابية بالإشراف على مراجعة الأحاديث النبوية، من أجل "القضاء على النصوص الكاذبة والمتطرّفة وأي نصوص تتعارض مع تعاليم الإسلام، وتبرّر ارتكاب الجرائم والقتل وأعمال الإرهاب"، لا يمكن الجزم بمدى جدّية هذه المبادرة التي تم إطلاقها في أكتوبر/ تشرين الأول 2017، لكنها خطوة غير مسبوقة، ترفع فيها السلطة لباس القدسية عن كتب التراث، وتُشرعن تنقيته من الأكاذيب.
الآن، وقد تبين أيضاً أن عائض القرني وأبو إسحق الحويني وغيرهما ليسوا معصومين من الخطأ والخطيئة، بل يفتون ويتلفظون بما يجهلونه، لِمَ لا نرفع الحرج، ونكفّ عن تسميتهم "العلماء"؟ فحتى عندما اعترف الحويني بجهله، وصف ما ارتكبه بأنه "غلط علمي"، وفي الكلمة التباس، لكونها تحيل إلى ﺤﻘﻠﻴﻥ ﺩﻻليين ﻤﺨﺘﻠﻔﻴﻥ وﻤﺘﻨﺎﻓﺭﻴﻥ أحياناً: المعرفة الفقهية وعلوم الطبيعة، فهل يُعقل أن نجعل من لويس باستور ودعاة الاستشفاء ببول الإبل وجهيْن لكلمة واحدة؟ هل يتساوى ابن سينا والخوارزمي وإديسون الذين أضاءوا الإنسانية بعلمهم واختراعاتهم مع شيوخ أشاعوا الظلام والإجرام بفتاواهم؟
الفرق شاسع بين المعرفة الدينية وعلوم الحياة، لتباين وتعارض حقليهما من حيث الأصول والغاية والوسيلة، فالأديان تقوم على الروحانيات والتسليم بالغيبيات والإيمان المطلق بالوحي والمعجزات، في حين تعكف العلوم على حقائق موضوعية، وفرضياتٍ قابلةٍ للتكذيب عبر البحث والتقصّي والتجربة. ولكن تهميش دور العقل والعلوم الطبيعية والأبحاث العلمية في بلداننا قابله تضخيم وتقديس لدور المشايخ والدعاة، إلى درجة أن بعض الشيوخ يظنّون أنهم علماء بالمعنى التجريبي للمصطلح، وأصبحوا يجادلون في علوم الطب والفيزياء والفلك، ويصدرون أحكاماً على النظريات العلمية. وما أكثر "العلماء الربانيين" الذين يُقحمون تأويلاتهم لبعض الآيات القرآنية في سجالاتٍ علميةٍ، كي يثبتوا أن الجنين قد يبقى راقداً ومركوناً في بطن أمه سنين، وأن الأرض مسطحة، وأن الشمس هي التي تدور حول الأرض، وأنّ الإنسان لم يطأ القمر، وأنه لا وجود للأقمار الاصطناعية أصلاً، التي لولاها لما سُخِّرت لهم شاشات الفضائيات.
ولكن التشكيك في الحقائق العلمية ليس حكراً على العرب والمسلمين، بل لقد شهد تاريخ الكنيسة 
الكاثوليكية الرومانية حرباً شرسة ضد كل من حاول أن يبحث في العالم الطبيعي بما يتعارض مع ما جاء في الكتب المقدّسة من رواياتٍ عن أصل الحياة والكون. وكان نيكولاس كوبرنيكوس أول من زعزع العقائد اللاهوتية المسيحية في القرن السادس عشر، حين جاء بنظريةٍ تقضي بأن الشمس هي مركز المجموعة الشمسية، وأن الأرض مجرّد كوكب ضمن الكواكب التي تدور حولها. نسفت نظريته المعتقدات الراسخة في الديانة الكاثوليكية آنذاك أن الأرض مسطحة، ثابتة وهي مركز الكون، في حين أن الشمس تجري كل يوم بين طَرَفَيْ السماء. اتهمت الكنيسة كوبرنيكوس بالهرطقة، وكفّرته وحظرت تداول أفكاره ومؤلفاته، وحاكمت وكفّرت وعذبت من سار على دربه، فأحرقت القسّ المتحرر جيوردانو برونو، وسجنت غاليليو غاليلي الذي زكّى نظرية كوبرنيكوس بالنظر إلى السماء بالتلسكوب.
لم تتوقف مسيرة علماء الغرب في ظل استمرار الاضطهاد الديني، بل انطلق البحث العلمي في أوروبا، وانتشرت اختراعات مدهشة تثبت أن للكون قوانين علمية تتحكّم بها الطبيعة. فقدت الكنيسة السيطرة على عقول أتباعها، وقضت الثورات العلمية والصناعية والسياسية على الاستبداد الديني. انتظر العالم المسيحي ثلاثمائة سنة، قبل أن يعترف البابا يوحنا بولس الثاني سنة 1992 بأن الكنيسة الكاثوليكية أخطأت في إدانة غاليليو، وأقرّ بعده البابا فرانسيس بنظرية التطور عن طريق الانتقاء الطبيعي للعالم تشارلز داروين، ونظرية الانفجار الكبير (Big Bang). بلغت الكنيسة سنّ الرشد، وأصبحت تعترف بحدودها، فلكل من القسّ والعالِم دائرة معارف يحرص على ألّا يتعداها. وانعكس هذا الوضع في الغرب المسيحي على اللغات المتداولة في مناطق نفوذه، إذ لا مجال للخلط بين العالِم (Scientist) والدارس للشأن الديني واللاهوتي (Theologian).
كان بإمكان المسلمين أن يسبقوا الغرب في التمييز بين هذين الحقلين، عندما دعا ابن رشد قبل 
ثمانمائة عام إلى الفصل بين العقل والنقل في كتاب "فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال". وأراد الفيلسوف، من هذا الكتاب، الفصل بين المجالين، الشرعي الذي يقوم على الوحي والإيمان والفلسفي المؤسَّس على الاستدلال والبرهان، أي النظر العقلي في الموجودات. كان جزاء ابن رشد أن قُدّم سنة 1195 لمحاكمة فكرية في مجلس السلطان يعقوب المنصور الموحدي. أصغى هذا الأخير إلى أعداء العقل، وهم يلعنون الفيلسوف، ويتهمونه بالكفر والزندقة، ثم عزله عن منصب قاضي القضاة، وأمر بإحراق كتبه ونفيه من قرطبة، كما أمر المسلمين بالابتعاد عن شؤون الفلسفة والتفكير.
ولأن المسلمين لم يعرفوا، منذ ذلك الحين، دعوة صريحة إلى انتصار العقل على النقل، فما زالت لغتنا تساوي بين أينشتاين والحويني. ولكن الآن، وقد أقرّ شيوخٌ بخطورة جهلهم الذي ساهم في تخلف الوطن العربي والعالم الإسلامي وتخريبهما، فأقل ما يمكن القيام به أن تُسحب عنهم صفة "عالِم"، فتحييد رجال الدين عن شؤون العلوم لا يقل أهمية عن ضرورة إبعاد اللاهوت عن شؤون السلطة، لبناء دولة المواطنة في عالمنا العربي.
دلالات
D3DB8A51-4A38-4CFE-8FF7-F3890E6C424F
D3DB8A51-4A38-4CFE-8FF7-F3890E6C424F
عائشة البصري
كاتبة وإعلامية مغربية، ناطقة سابقة باسم بعثة الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة في دارفور وحائزة على جائزة رايدنهاور الأمريكية لكاشفي الحقيقة لسنة 2015.
عائشة البصري