31 أكتوبر 2024
هل ماتت قضية فلسطين..؟
(1)
بتبجّحٍ مستفز، يعلن صهيوني، أترفع عن ذكر اسمه هنا، موت قضية فلسطين "رسميا"، وهو منتشٍ بأخبار مؤتمر وارسو أخيرا، باعتباره حدثا "فريدا" دشّن حقبة جديدة في تاريخ العلاقة العربية مع كيان العدو الغاصب في فلسطين.
وبقدر ما يقهرك هذا الإعلان الغبي، تشعر أن الأمر برمته، فعلا، ينطوي على حقبةٍ جديةٍ في تاريخنا المعاصر. ولكن ليس بالمعنى الذي رمى إليه الصهيوني الوقح. بل بمعنى آخر بعيد تماما، وفي اتجاهٍ مغايرٍ لما قصده، فقضية فلسطين لم تكن حية أصلا قبل مؤتمر وارسو حتى يعلن موتها، بل يمكن أن يُقرأ الحدث على نحوٍ مختلف كليا، باعتباره موعد مولد جديد لقضيةٍ كان النظام العربي الرسمي يختطفها بوصفها، كذبا وبهتانا، قضيته "القومية" الأولى، وهي في الحقيقة كانت كذبته الكبرى، وذريعته البشعة لسلب الشعوب العربية كل ما هو جميل في حياة الناس، وفي كل المناحي، فباسم فلسطين وقضيتها، وبحجّة التعبئة والحشد لتحريرها، سلب القوم خيرات البلاد، وحرياتهم، ورفاهيتهم، وحقهم في الحرية، وتنظيم الجمعيات والأحزاب، والحياة الديمقراطية، وبناء اقتصاد خالٍ من الفساد. وتحت شعارات التحرير و"رمي العدو في البحر" ربض العسكر على قلوب الناس، وحكمت البساطير مصائرهم، وتسيّد الحكم العرفي، وأحكام الطوارئ، فلا صوت يعلو فوق صوت المعركة (!)، والمعركة كانت في مكان آخر، وترتدي لبوسا مختلفا، لا علاقة له بالمعارك التي نعرفها، فأي معركةٍ تلك التي تنتج نكبةً، فنكسةً، وانتصاراتٍ وهميةً، وحروبا كل نتيجتها كانت تمدّد العدو، واحتلاله مزيدا من الأراضي، وتعاظم نفوذه في البلاد، ومدّه بمزيد من "المنعة" والقوة، فوق الأرض وتحتها، وعبر "تنسيقٍ أمني" ظاهر وباطن، وتحالفاتٍ استراتيجيةٍ مشبوهة، ولقاءاتٍ "على مستوى القمة!" ومؤتمراتٍ تحت الطاولة، ومعاهداتٍ رسمية ووهمية، سرّية وعلنية؟
نعم، كان ثمّة معركة صامتة، تجري بعيدا عن الأعين، فيما المعركة التي ملأت الأفق جعجعةً، تسلم العدو مزيدا من الأراضي، وتمهّد له لـ "احتلالاتٍ" جديدة. أما المعركة الصامتة الهادرة
السرية الحقيقية فكانت في مكانٍ آخر، معركة تدار باقتدار غير مسبوق، لتكبير العدو وتقويته، وسحب دم الشعوب وضخّها في جسده. كان ثمّة معركتان إذاً في المشهد العربي الرسمي، معركة لتحرير فلسطين، وهي كاذبة خاطئة، ومعركة أخرى حقيقية لقتلها و"شيطنة" أبنائها وبناء "إسرائيل" بكامل عظمتها، ومدّها بأسباب الحياة القوة.
(2)
قضية فلسطين، بهذا المعنى، لم تمت، بل ربما تكون ولدت من جديد، بعد أن تخلّى عنها "رسميا" من كان يخطفها، لقتلها، وسلبها شرفها. فلسطين ولدت بعد "وارسو"، وما قبله من حفلات وزفات التطبيع والاستخذاء، والستربتيز السياسي، بعد أن أعلن عربٌ رسميا أنهم، نحو قرن، كانوا مجرّد سماسرة، ووسطاء لبيع دم شعوبهم وثروات بلادهم للصهيونية العالمية ومن يدعمها، ويرعاها. فلسطين، بهذا المعنى الجديد، تولد من جديد، وقد عرفت العدو من الصديق، وتخلّصت من سنوات طويلة من الخديعة والكذب والتدليس، فالأبطال القوميون لم يكونوا غير جواسيس، والفرسان التي كانت الإذاعات تصدح ببطولاتهم، لم يكونوا غير شخصياتٍ مستنسخةٍ من كعب بن أبيّ وعبد الله بن سلول، كانوا يهودا أكثر من اليهود، أضاعوا عقودا من السنين عاشت الشعوب المسكينة أسيرة إعلامهم المجعجع، اليوم، حصحص الحق، وذاب الثلج، وظهر المرج، بكامل بشاعته، فتهنأ فلسطين، وأهلها ومحبوها في مشارق الأرض ومغاربها، بعد أن تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر.
(3)
على الرغم من قتامة هذا المشهد المأساوي، وضياع حقبٍ من عمر هذه الأمة، وآلاف مؤلفة من الشهداء، وهدر دماء زكية لا تقدّر بثمن، فثمّة ما يبشر بخير عميم، ويكفي أن ترى ذلك
الطفل المغاربي الذي انتشرت صوره على مواقع التواصل الاجتماعي، وهو يعدّد عواصم دول العالم، مستنكرا وجود شيء اسمه "إسرائيل"، وبالتالي وجود عاصمة لها، حتى تُمسك بزمام الأمل، وتشدّه لصدرك بحب، فلئن خان الرسميون، وفرّطوا، فإن الشعوب لم تزل قابضةً على جمر الحقيقة. وحتى أولئك المرتزقة من نخب الأنظمة التي تملأ أفوههم أموال السحت، من المطبّلين المزمرين للتطبيع والاستسلام، لم يعد لهم مكانٌ في الوجدان الجمعي العربي، فغدوا أضحوكةً ممجوجةً، لا يصدّقهم أحد، ومن يتصفّح ما يكتبه الناس في منصّات الإعلام الشعبي، يدرك أن النار تشتعل تحت الرماد، والجمر يتّقد انتظارا لريحٍ خفيفة، تظهر حقيقة هذه الأمة، التي لم ولن يغادرها الخير، حتى في أشد حقب التاريخ حلكة.
بقيت كلمة.. المقاومة هي المشعل الوحيد الذي لم يزل ينير العتم. المقاومة لم ولن تكون إرهابا، مهما حاولوا شيطنتها. هي الدليل الأكبر على أن هذه الأمة لم تمت، فهي حية في قلوب الملايين، دعمتها إيران أم لم تدعمها. والمقاومة هنا ليست فقط الفصائل التي ترفض وضع السلاح والسير في زفة الاستسلام، بل هي أيضا تلك الروح التي لم تزل تشتعل في قلوب الملايين من محبّي فلسطين بعامة، من المنتشرين في أنحاء الأرض، وفي قلوب المرابطين في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس بخاصة، هؤلاء الذين يحرسون شرف الأمة وقبلتها الأولى، ويذودون عن شعلة الأمل كي تبقى مضيئة.
بتبجّحٍ مستفز، يعلن صهيوني، أترفع عن ذكر اسمه هنا، موت قضية فلسطين "رسميا"، وهو منتشٍ بأخبار مؤتمر وارسو أخيرا، باعتباره حدثا "فريدا" دشّن حقبة جديدة في تاريخ العلاقة العربية مع كيان العدو الغاصب في فلسطين.
وبقدر ما يقهرك هذا الإعلان الغبي، تشعر أن الأمر برمته، فعلا، ينطوي على حقبةٍ جديةٍ في تاريخنا المعاصر. ولكن ليس بالمعنى الذي رمى إليه الصهيوني الوقح. بل بمعنى آخر بعيد تماما، وفي اتجاهٍ مغايرٍ لما قصده، فقضية فلسطين لم تكن حية أصلا قبل مؤتمر وارسو حتى يعلن موتها، بل يمكن أن يُقرأ الحدث على نحوٍ مختلف كليا، باعتباره موعد مولد جديد لقضيةٍ كان النظام العربي الرسمي يختطفها بوصفها، كذبا وبهتانا، قضيته "القومية" الأولى، وهي في الحقيقة كانت كذبته الكبرى، وذريعته البشعة لسلب الشعوب العربية كل ما هو جميل في حياة الناس، وفي كل المناحي، فباسم فلسطين وقضيتها، وبحجّة التعبئة والحشد لتحريرها، سلب القوم خيرات البلاد، وحرياتهم، ورفاهيتهم، وحقهم في الحرية، وتنظيم الجمعيات والأحزاب، والحياة الديمقراطية، وبناء اقتصاد خالٍ من الفساد. وتحت شعارات التحرير و"رمي العدو في البحر" ربض العسكر على قلوب الناس، وحكمت البساطير مصائرهم، وتسيّد الحكم العرفي، وأحكام الطوارئ، فلا صوت يعلو فوق صوت المعركة (!)، والمعركة كانت في مكان آخر، وترتدي لبوسا مختلفا، لا علاقة له بالمعارك التي نعرفها، فأي معركةٍ تلك التي تنتج نكبةً، فنكسةً، وانتصاراتٍ وهميةً، وحروبا كل نتيجتها كانت تمدّد العدو، واحتلاله مزيدا من الأراضي، وتعاظم نفوذه في البلاد، ومدّه بمزيد من "المنعة" والقوة، فوق الأرض وتحتها، وعبر "تنسيقٍ أمني" ظاهر وباطن، وتحالفاتٍ استراتيجيةٍ مشبوهة، ولقاءاتٍ "على مستوى القمة!" ومؤتمراتٍ تحت الطاولة، ومعاهداتٍ رسمية ووهمية، سرّية وعلنية؟
نعم، كان ثمّة معركة صامتة، تجري بعيدا عن الأعين، فيما المعركة التي ملأت الأفق جعجعةً، تسلم العدو مزيدا من الأراضي، وتمهّد له لـ "احتلالاتٍ" جديدة. أما المعركة الصامتة الهادرة
(2)
قضية فلسطين، بهذا المعنى، لم تمت، بل ربما تكون ولدت من جديد، بعد أن تخلّى عنها "رسميا" من كان يخطفها، لقتلها، وسلبها شرفها. فلسطين ولدت بعد "وارسو"، وما قبله من حفلات وزفات التطبيع والاستخذاء، والستربتيز السياسي، بعد أن أعلن عربٌ رسميا أنهم، نحو قرن، كانوا مجرّد سماسرة، ووسطاء لبيع دم شعوبهم وثروات بلادهم للصهيونية العالمية ومن يدعمها، ويرعاها. فلسطين، بهذا المعنى الجديد، تولد من جديد، وقد عرفت العدو من الصديق، وتخلّصت من سنوات طويلة من الخديعة والكذب والتدليس، فالأبطال القوميون لم يكونوا غير جواسيس، والفرسان التي كانت الإذاعات تصدح ببطولاتهم، لم يكونوا غير شخصياتٍ مستنسخةٍ من كعب بن أبيّ وعبد الله بن سلول، كانوا يهودا أكثر من اليهود، أضاعوا عقودا من السنين عاشت الشعوب المسكينة أسيرة إعلامهم المجعجع، اليوم، حصحص الحق، وذاب الثلج، وظهر المرج، بكامل بشاعته، فتهنأ فلسطين، وأهلها ومحبوها في مشارق الأرض ومغاربها، بعد أن تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر.
(3)
على الرغم من قتامة هذا المشهد المأساوي، وضياع حقبٍ من عمر هذه الأمة، وآلاف مؤلفة من الشهداء، وهدر دماء زكية لا تقدّر بثمن، فثمّة ما يبشر بخير عميم، ويكفي أن ترى ذلك
بقيت كلمة.. المقاومة هي المشعل الوحيد الذي لم يزل ينير العتم. المقاومة لم ولن تكون إرهابا، مهما حاولوا شيطنتها. هي الدليل الأكبر على أن هذه الأمة لم تمت، فهي حية في قلوب الملايين، دعمتها إيران أم لم تدعمها. والمقاومة هنا ليست فقط الفصائل التي ترفض وضع السلاح والسير في زفة الاستسلام، بل هي أيضا تلك الروح التي لم تزل تشتعل في قلوب الملايين من محبّي فلسطين بعامة، من المنتشرين في أنحاء الأرض، وفي قلوب المرابطين في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس بخاصة، هؤلاء الذين يحرسون شرف الأمة وقبلتها الأولى، ويذودون عن شعلة الأمل كي تبقى مضيئة.