هل لا يكون "الإخوان" إلَّا مَلُومِين؟

16 أكتوبر 2015
+ الخط -
ليس أسوأ من أن تكون في موضع المظلوم والمهزوم في آن. فالناس، بطبيعتها، لا تحترم المهزومين، وعادة ما يلجأ غالبهم إلى تحميل المهزوم أسباب الهزيمة والفشل، حتى وإن كان مظلوماً. واليوم، يجد الإخوان المسلمون في مصر أنفسهم في هذا الموضع. فهم قد انكسروا وانهزموا أمام مؤامرات "الدولة العميقة"، وهجمة "الثورة المضادة". والأدهى أنهم متهمون بتضييع "ثورة"، بزعم أنهم لم يكونوا أهلاً لإدارتها وقيادتها. ولا يشفع لهم، ضمن مقاربة بعضهم، أنهم أكثر من اكتوى بنار الانقلاب، ونير الظلم، وجبروت البطش. دع عنك أنهم هم وحدهم من بقي في الشارع رفضا للارتكاس في مصر. مرة أخرى، لا يستحق المهزوم، في عرف الغالبية، تلمس الأعذار له.
ما سبق لا يعني أن "الإخوان" لم يخطئوا، أو أن أداءهم لم يكشف عن عَوارٍ بَيِّنْ. فهم، قطعاً، يتحملون جزءا كبيراً من مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع في مصر، بل وتضييع فرصة تاريخية، بدت سانحة، لبناء "كتلة تاريخية" وطنية، متجاوزة ضيق الإيديولوجيا والسياسة، ولإعادة بناء مصر مدنية على أسس جديدة، ذات سيادة، تكون وطناً لكل أبنائها، بعيداً عن اختطاف طغمة من العسكر وأصحاب المصالح. ولكن، ما بين تحميلهم جزءاً من المسؤولية، مهما عَظُمْ، وتحميلهم كل المسؤولية، بَونٌ شاسع. وهنا بالذات أحد أهم أسباب الفجوة تلك بين "الإخوان" و"ناصحيهم"، مع تعمدّي، هنا، قصر الحديث عن "الناصحين" والناقدين، لا الشامتين والمعادين.
نعم، فَشِلَ "الإخوان"، وَأُفْشِلوا، في إدارة الدولة و"الثورة" في أثناء رئاسة الدكتور محمد مرسي في مصر. فشلوا لأنهم، ببساطة، تصدّروا المشهد عن وعيٍّ وسبق إصرار، ولأنهم تقدموا الصفوف بمحض إرادتهم، ولم يُدفعوا إلى ذلك دفعا. كما فشلوا، لأنهم قبلوا تحمل المسؤولية ووعدوا بإنجازات، والأهم أنهم لم يتمكّنوا من الحفاظ على "الكتلة الثورية"، المتجاوزة انتماءات الإيديولوجيا، موحدة متماسكة. ولا شك أن مركزية التنظيم وأولويته في البناء الفكري الإخواني ساهم في ذلك إلى حد كبير. ولا يُقْبَلُ من "الإخوان"، اليوم، أن يغسلوا أيديهم من المسؤولية، بذريعة وجود مؤامرة عليهم، حيث إن عاقلاً لم يكن يتوقع أن تغيب مؤامرات ومحاولات "الدولة العميقة" إعادة إنتاج نفسها، وبعث هيمنتها وسطوتها من جديد. ولكن، وكما أن الموضوعية تقتضي تحميل "الإخوان" جزءاً من المسؤولية، فإنها تقتضي، أيضا، تحميل الآخرين أجزاء منها، وهو ما يندرج في سياق الحديث عن التَفْشيل.
يتغاضى بعض "ناصحي" الإخوان المسلمين وناقديهم عن ربط معطياتٍ، قد يكونون يُقرون بِجُلِّها، بالنتائج التي ترتبت عليها. مثلاً، هم يقرون أن بنية النظام العسكرية المتحالفة مع سرطان الفساد لم تتأثر، إلى حد كبير، بثورة يناير 2011، وأن الذي جرى كان تخلصاً من
وجوه قديمة، أضحت عبئاً على المنظومة كلها، لصالح بقاء المنظومة نفسها، والمدِّ في عمرها. واستطراداً في النقطة نفسها، ما زال كثيرون يترددون في الإقرار بحقيقة أن حسني مبارك لم يُطَحْ في "ثورة شعبية"، وإنما بانقلاب عسكري أبيض. نعم، أُجْهِضَتِ "الثورة" قبل أن يسقط مبارك، وتمَّت السيطرة على مسارها وإعادة توجيهها عبر التخلص من مبارك وبعض حاشيته، وتسويق ذلك على أنه الإنجاز الأسمى، في حين بقي نظامه يخطط ويعمل انتظاراً لمرور العاصفة. كان الكل يعلم ببقاء بنية النظام الفاسد، وفي مقدمتها قيادة المؤسسة العسكرية. ومع ذلك، الكل خُدِعَ، عارفاً راضياً، بما في ذلك "الإخوان". كان الجميع، أو الغالب، مساهماً في بيع الوهم والمتاجرة به.
أيضا، يعيب أولئك على "الإخوان" انغلاقهم وتمركزهم حول التنظيم وانكفائهم داخله، ما أدى إلى تفسخ "كتلة الثورة" وانفضاضها. وفي هذا، كما سبقت الإشارة، درجة كبيرة من الصحة. لكن الموضوعية، هنا، تقتضي، أيضا، الإشارة إلى أن "كتلة الثورة"، بكل مكوناتها، لم تكن أكثر نضجاً من "الإخوان"، فكثير من أدعياء الليبرالية والقومية والاشتراكية والإسلامية تحولوا إلى تجار وسماسرة، يطالبون بحصصهم من "كنز الثورة"، وعندما لم يعطوا منها ما يشبع نهمهم، إذا هم يقبلون بلعب دور البيدق الذي تحركه "الدولة العميقة" لإسقاط "الإخوان". الكارثة هنا، أن كلَّ عاقل كان يدرك، حينها، أن تحرّك تلك القوى لإسقاط الرئيس مرسي سوف يعود بنظام مبارك الفاسد إلى الواجهة مجدداً، وبشكل أكثر شراسة، وهذا ما كان. ومع ذلك، يُحَمَّلُ "الإخوان" وحدهم مسؤولية الخفة والرعونة تلك، بل قل الجريمة، بحق مصر وشعبها.
الأكثر غرابة أن يتحول بعض ناقدي "الإخوان" و"ناصحيهم"، من حيث لا يشعرون، إلى اعتذاريين عن نظام الجور القائم في مصر اليوم. كيف؟ ببساطة، عبر الإكثار من جَلْدِ "الإخوان" وَلَوْمِهِم، وتحميلهم وزر كل الرزايا والخطايا المترتبة على فشل الجميع، في إدارة مرحلة "الثورة" واستشراف المؤامرات والتحديات أمامها. مشكلة هذا المنطق أنه يفترض، لا شعورياً، أن بنية القمع والكبت والجور في فضائنا العربي هي الأصل، وأنه في حال الفشل في تحطيمها، تصبح معفاة من المسؤولية، طليقة اليد في البطش.
باختصار، ما جرى، وما يجري، في مصر، والمنطقة العربية، لا يتحمل وزره "الإخوان"، فحسب، بل الجميع شريك في أي فشل، مثلما أن الجميع سيكون شريكاً في أي نجاح يترتب على أي جهد مشترك. وفي خضم تلاطم الأمواج وضبابية الرؤية في المنطقة اليوم، لا ينبغي أن ننسى أن الخصم والعدو الحقيقي هي أنظمة البطش الرسمي التي اختطفت دولاً وشعوباً وأوطاناً، وليس ضحاياها. أيضا، ليس "الإخوان" وحدهم من عَرَّت الأحداث وتطوراتها كثيرا من سوءاتهم وأمراضهم، حيث أنها عَرَّت كذلك سوءات وأمراض غيرهم من كل ألوان الطيف الإيديولوجي والسياسي.
ونصيحة أخيرة لـ"ناصحي" "الإخوان" و"ناقديهم"، من دون دور فعال "للإخوان" تتضاءل فرص ثورات شعبية حقيقة في كثير من دولنا العربية، فـ"الإخوان" مكون أساس من "الكتلة التاريخية" التي يُرام بناؤها لإحداث التغيير المطلوب. لا تنطلق الثورات من تراكم "ترف" المفكرين فحسب. ولأن "الإخوان" جسم كبير، ثقيل الحركة، وبالضرورة بطيء الاستجابة للتغيير، وهذه قوانين بشرية ليس "الإخوان" بدعاً منها، فإن المصلحة الكبرى تقتضي "نصحهم" وإعانتهم على توسيع أفقهم، لا لَوْمهمْ وتقريعهم. جميعنا نروم تغييراً يعيد للإنسان كرامته في أوطاننا، ويجعل منا شعوباً فخورة بانتمائها لها، وهذا لن يكون من دون تطوير وعينا الجَمَعِيِّ وإنضاجه، وليس عند "الإخوان" فحسب، فمعضلاتهم جزء من معضلاتنا كلنا.