هل كان قرار التنحي مغامرة محسوبة؟ (1/2)

09 يونيو 2020
+ الخط -
هل كان قرار جمال عبد الناصر بالتنحي عن الحكم عقب هزيمة 5 يونية 1967 مغامرة محسوبة، أم فيلما سياسيا كتبه محمد حسنين هيكل وتم تحضيره بالتنسيق مع قيادات الاتحاد الاشتراكي لإطلاق الشرارة الأولى للمظاهرات التي تطالب ببقاء عبد الناصر في الحكم، قبل أن تلحق بها جموع أكبر؟ وهل التفكير في ذلك تعسُّف يقف وراءه الكارهون لعبد الناصر؟ أليس منطقيا أن يرفض رحيل عبد الناصر، شعبُه الذي عاش لسنين مطمئنا بحتمية هزيمة إسرائيل وإلقائها في البحر، وحين وجد قائده يعلن مسئوليته عما حدث ويعلن تركه للمسئولية، شعر بأن القائد يتركه ليواجه مصيره الغامض، ولأنه لا يعرف غير هذا القائد، ولأن سنوات من التمجيد والتأليه وقتل الإرادة الفردية جعلت هذا الزعيم بمثابة الأب لشعبه؟ ألم يكن طبيعيا إذن أن يخرج الشعب ليطالب قائده وأباه بألا يتركه؟

من الطبيعي أن تتبادر إلى ذهنك هذه الأسئلة، وأنت تسترجع ما حدث في مصر يومَي 9 و 10 يونية عام 1967، ولعلك لن تفكر وأنت تسألها أنك ترتكب منكرا أو محرما، لكنني فوجئت حين سألتها قبل ثلاثة وعشرين عامًا بأنها ليست أسئلة مقبولة أو مشروعة كما كنت أتصور، كان ذلك حين وجهت هذه الأسئلة في عام 1997 إلى عدد من الساسة الكبار الذين شهدوا تلك الفترة، وكان بعضهم من صُناعها ورموزها، وكنت وقتها أقوم بتحقيق صحفي نشرته صحيفة «الدستور» في إصدارها القديم، كان يحمل سؤالا رئيسيا هو: هل كانت مظاهرات التنحي في أحسن الأحوال مغامرة محسوبة؟

أول من وجهت له أسئلتي كان السيد أمين هويدي الذي شغل منصب وزير الحربية ورئيس المخابرات في عهد عبد الناصر، والذي ظل لسنوات يكتب مقالا أسبوعيا في الصفحة الأخيرة من صحيفة «الأهالي»، حين كانت صحيفة وحين كان الحزب الذي يصدرها حزبا، وبرغم أنني كنت أحب أن أقرأ له كثيرًا مقالاته التحليلية الهادئة والمفيدة، إلا أنني فوجئت برد فعله الحاد بمجرد طرح السؤال، حيث قال لي غاضبا: «مجرد طرح هذا السؤال يعتبر مهزلة، أنا كنت شاهدا على ما حدث، أنا كنت أول واحد جنب الريس لما أعلن إنه هيتنحى، لكني أفضل أن يتركز جهدكم فيما نحن فيه الآن، أنتم جيل يهرب من الحاضر للماضي، وصحافة لا تريد أن تبصر الجماهير بحالها، بتخلوا الشعب يعيش في أحلام الماضي وغيبيات الماضي، وأنا لا يمكن أن أشترك في هذه المهزلة، ولو سمعت هذا السؤال في مجلس لن أرد». وطلب مني إنهاء المكالمة فورًا.

بعدها لم يكن انفعال الكاتب الكبير محمد عودة غريبا بالنسبة لي، فمحبة الرجل لعبد الناصر معروفة ومؤكدة، ولذلك بدأ إجابته بالقول منفعلا: «هذا على رأي أغنية عبد المطلب: «سؤال غريب ما أجاوبش عليه»، دي لا مؤاخذة قضية بيزنطية، والسؤال فيه إثارة، والمفروض أن تنشروا موضوعا مدعما بالوثائق يثبت أن هذا الخروج كان خروجا شعبيا صادقا»، قلت له: «ولذلك أسألك يا أستاذ عودة عشان تنورني بما لا أعرفه، إلا إذا كنت ترى أن السؤال حُرُم»، فهدأ انفعاله وأجاب عن سؤالي.


الكاتب الكبير سلامة أحمد سلامة اعتذر لأنه يعتقد أن السؤال شائك، وقال إنه يخشى أن يأتي رأيه انطباعيا، خاصة أنه كان وقت وقوع المظاهرات خارج مصر. الفريق محمد فوزي اعتذر بفيض من الأدب لظروف مرضه. الفريق سعد الدين الشاذلي والذي كنت قد وصلت إليه بصعوبة اعتذر كذلك ولم تطل مكالمة التلفون أكثر من دقيقة. وحتى من توقعت أن يُدلوا بآرائهم بحماس، على الأقل بسبب عدائهم للفترة الناصرية اعتذروا عن الإجابة لأن السؤال شائك وسيثير حساسيات سياسية، وكان على رأس هؤلاء المستشار مأمون الهضيبي المتحدث الرسمي وقتها باسم جماعة الإخوان المسلمين، والذي قال باقتضاب بعد أن سمع السؤال: «دي حاجات تاريخية عاوزة بحث». قلت له: «يا فندم أنا أسألك عن الموقف السياسي للجماعة التي تتحدث باسمها، وليس عن تفاصيل الواقعة». رد باقتضاب أشد: «أنا مش عاوز أتدخل بشكل عام في سؤال خطير زي ده. شكرا. سلام عليكم». وأغلق السماعة، وكان واضحا أن اللسع من شوربة الصحافة، بعد واقعة حوار صحيفة «الأهرام ويكلي» الذي أعلن فيه مرشد الجماعة وقتها مصطفى مشهور رفضه لتجنيد الأقباط في الجيش، جعل الإخوان جميعا يقررون النفخ في الزبادي، حتى لو كان الحديث عن فترة مضت قادها رئيس يمقتونه.

أذكر يومها أن أحد الساسة الكبار بعد أن اعتذر عن الحديث، أصر على أن أعده بأنني لن أنشر، حتى إنه اعتذر عن الإجابة قائلا لي: «الكلام في موضوع زي ده بصراحة هيجيب وجع دماغ والواحد هيتشتم حتى لو قال إنه مش هيعلق، والحكاية مش ناقصة». قالها ضاحكا دون أن ينتبه إلى أنه كان ينكأ جرحا مؤلما هو طريقة تعامل الأجيال التي عاصرت ثورة يولية مع تاريخها، كأنه مِلك لهم ولمن صنعوه وليس ملكا للأجيال التي تليهم؛ ولذلك ظللنا لسنوات نشهد هجوما شرسا على كل من يعيد قراءة واقعة تاريخية، فتقع الواقعة على رأسه، ومع أن هزيمة يونية وقت أن وجهت أسئلتي عما جرى عقب وقوعها، لم يكن قد مضى عليها سوى 30 سنة، ولم تكن آثارها السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية قد غادرت واقعنا أبدًا، إلا أنني اتهمت لمجرد طرح الأسئلة بالإثارة والتشجيع على الهروب إلى الماضي وتغييب الناس عن هموم الواقع، مع أن الطريق الأسهل للإثارة هو نشر صور عارية أو قصص جنسية، بدلا من محاولة تطهير جراح لا زالت نازفة، والتذكير بأن هزيمة يونية ليست تاريخا ولَّى وراح لحاله، وأنها بعد مرور خمسة عقود عليها، لا زالت واقعًا يطبق بمرارته على نفسيات وعقول وقلوب أجيال عديدة، حتى وإن كان البعض ينكر ذلك أو لا يدركه.

يومها، وبعد أن خذلني الكبار الذين حاولت جمع شهاداتهم على ما جرى، قررت أن أقرأ قصة التنحي وما أعقبه من مظاهرات، كما وردت على لسان بعض معاصريها، وكان من الطبيعي أن أبدأ بشهادة الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل الذي كان مشاركا في صناعة الحدث، أكثر من كونه شاهدا عليه، فهو كما يروي في كتابه «الانفجار»، كان أول من طرح فكرة التنحي على عبد الناصر في تمام الثامنة والنصف من مساء الخميس 8 يونية، قبل أن يقول عبد الناصر له إنه فكر في ذلك فعلا. وقتها كانت الحقيقة المُرة لم تتضح بعد للمصريين، حيث كانت الصحف لا تزال تتحدث عن المعارك الضارية التي تدور بشراسة على الجبهة، والإذاعة تعلن أرقام الطائرات المعادية التي يتوالى سقوطها، بينما كان عبد الناصر يقرأ كشفا وصله للتو بخسائر الجيش المصري، وعندها ـ على حد تعبير هيكل: «أحس بهول الكارثة وأدرك أنه لن تكون هناك ضربة ثانية أو ثالثة»، ومع ذلك حاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه، وطلب من القادة الميدانيين الصمود، لكنه عندما أدرك أن الأمر أصبح غير قابل للسيطرة، اتصل بوزير الخارجية محمود رياض، ليطلب من السفير القوني ـ سفير مصر في الأمم المتحدة في نيويورك ـ إبلاغ موافقة مصر على وقف إطلاق النار.

قبل أن يتحدث هيكل مع عبد الناصر، كان قد اقتنع أن عليه ترتيب أوضاع البلد للانتقال إلى ظروف مختلفة. وفي جلسة منفردة مع عبد الحكيم عامر شريكه في الثورة والحكم والهزيمة، اقترح ناصر تقديم استقالته للشعب، وأن يكون شمس بدران رئيسا مؤقتا لمصر. ووافق عامر، بعدها اتصل ناصر بهيكل في مكتبه بصحيفة «الأهرام». يقول هيكل واصفا تلك المكالمة: «وبدا صوته لأول وهلة على التلفون مثقلا بهموم الدنيا كلها، وقد سألني ما الذي أقترح عمله، وكان رأيي أنه لم يبقَ أمامه غير الاستقالة، وكان رده بالحرف: غريبة، هذا ما فكرت فيه تمامًا. وكان ردي أنه ليس هناك خيار آخر. وكان تعليقه بالموافقة». طلب ناصر من هيكل أن يكتب له خطاب الاستقالة «كجهد أخير في معاونته»، وتحاورا في نقاط الخطاب، واتفقا على اللقاء في الساعة الثامنة من صباح يوم 9 يونية. ظل هيكل يكتب مسودات الخطاب طيلة الليل، وفي الصباح اتجه لبيت عبد الناصر ومعه مشروع الخطاب «الذي أرهقني سطوره أكثر من أي شيء آخر كتبته من قبل، وظننت أنني حفظت العبارات والألفاظ من كثرة ما راجعتها وغيرت فيها وبدلت».

عندما التقى هيكل بناصر بدا له وكأنه «أضاف إلى عمره 10 سنوات على الأقل. كان مرهقا بشكل يصعب وصفه، وكانت في عينيه سحابة حزن لم أرها من قبل». أخذا يتحدثان طويلا في تفاصيل الخطاب، وبالذات في نقطة اختيار شمس بدران خليفة لعبد الناصر، وهو اختيار يشعر كل من يقرؤه بأنه مُلغز، خصوصًا حين يأتي عقب هزيمة كان شمس بدران واحدا من صناعها، لكن هيكل في هذه النقطة لا يفصح عن الكثير، ليساهم في إضفاء هالات الغموض على شمس بدران التي لم يتم إزاحتها حتى الآن. على أي حال انتهت المناقشة الطويلة بأن أصبح زكريا محيي الدين هو المرشح البديل، خاصة أنه كما قال ناصر: «مقبول دوليا، وقادر على الحوار مع الأمريكان».

بعدها اختلف ناصر وهيكل على نص عبارة في الخطاب، كانت هي أهم العبارات فيه، وربما هي أشهر عبارة في الخطاب بعد ذلك، وهي عبارة كانت صيغتها الأولى تقول: «وبرغم أية عوامل قد أكون بنيت عليها موقفي من الأزمة، فإنني على استعداد لتحمل نصيبي من المسئولية»، واعترض ناصر مؤكدا أنه يتحمل المسئولية كلها، وهنا يعلق هيكل: «ولم أختلف معه فيما قال، وأعدت صياغة العبارة على الفور فجعلتها كالآتي: «إنني على استعداد لتحمل المسئولية كلها». وكان تعليق ناصر على هذه الصياغة الجديدة: «تلك هي الحقيقة وهذا أدق وأكرم». حمل هيكل خطاب التنحي، وعَبَر الشارع إلى مكتب سامي شرف لتتم كتابته على الآلة الكاتبة. أصابت سامي حالة من الهستيريا عندما قرأ عبارة «التنحي تمامًا ونهائيا عن أي منصب رسمي وأي دور سياسي». نفس الحالة أصابت موظف الآلة الكاتبة الذي أجهش بالبكاء وهو يكتب الخطاب. وبالتأكيد لم يكن خافيا على هيكل وهو من هو دهاءً وحنكة، أن الأثر الشعبي الذي سيسببه الخطاب سيكون أقوى بكثير من هستيريا سامي وبكاء موظف الآلة الكاتبة.

عاد هيكل بعدها إلى ناصر، ودار بينهما حوار طويل عن الساعات القادمة، وما سيحدث فيها، والأيام الماضية وما حدث فيها، وسنقتبس بعض العبارات التي وردت في الحوار كالآتي، مع التنبيه على أن ما يرويه هيكل لم يشهده أحد غيره، مما يجعل لك الخيار في تصديقه كما جاء، أو إنكاره كاملا دون الالتفات إليه، أو تأمله في ضوء حساسية الموقف المحيطة بالحوار لاختيار ما يوافق عقلك وتفكيرك:
ناصر: «لا أستطيع أن أتصور ما سيفعله الناس، والله لو أنهم أخذوني إلى ميدان التحرير وشنقوني فيه لما اعترضت عليهم، لهم الحق».

هيكل، بارعا في دور المبرر والمُنظر كعادته: «ليس هناك ضرورة لأن تدفع مشاعرك إلى هذه الدرجة، فما حدث لك شيء حدث من قبل كثيرًا في التاريخ، واعتقادي أن البلد واجه نكسة، ولكنه قادر على القيام منها بقواه الذاتية».

ناصر: «إنني أتصور أن الناس بعد مفاجأة استقالتي، سيطلبون معرفة الحقيقة فيما حدث، وهو حقهم، ولست أعرف السبيل إلى تحقيق هذا الطلب، فهو ضروري لمستقبل العمل، ولكني أخشى أن يتصور أحد أنني بأي شيء أقوله أحاول إشراك غيري في المسئولية، والله يعلم أنني لا أفكر في أي شيء من ذلك، فأنا نازل عند حكمة الله في قضائه، ولكن الحقيقة يجب أن تكون واضحة للناس».

بعدها طلب ناصر من هيكل أن يحضر معه إلقاء الخطاب فاعتذر. تبادلا المشاعر الطيبة عن الصداقة التي جمعت بينهما، ودار بينهما حوار دعونا نضع شكلا له طبقا لما أورده هيكل ـ مع بعض الاختزال.

ناصر: أعرف إلى آخر العمر أن لي أخا.

هيكل (مقاطعا): لا داعي لأن نقع فيما نهينا أنفسنا عنه فنُسلم أنفسنا للانفعالات، وأنا سعيد بما أديته إلى جانبك من دور، وقد خدمت فيه بلدي بما أستطيع.

ناصر: خِدمتك للبلد لم تنتهِ بعد. مازالت أمامك خدمة أرجو أن تؤديها، أنا بعد إلقاء خطابي سأدخل إلى غرفتي وأعزل نفسي تمامًا عن العالم، وقد تثور مشاكل ومضاعفات، وكل ما أطلبه منك أن تكون في هذه الليلة مسئولا عن أي شيء يذاع أو يقال باسمي أو نيابة عني، حتى يتمكن زكريا محيي الدين من حلف اليمين غدا. أنا أعرف أن علاقتك بزكريا طيبة.

هيكل: أنا لا أنوي أن أكرر دوري بجانبك مع أي رجل آخر، ولكني سأقبل تكليفك لدقة الظروف.

«ينهض هيكل ثم ينهض ناصر، يُسلمان على بعض». وهنا يقول هيكل: «ولمحت دمعة في عينيه لأول مرة في حياتي، واستدرت خارجا من غرفة مكتبه، فلم أكن أريده أن يرى دمعة أخرى في عيني».

بعد ساعات، كان الشعب المصري والشعوب العربية على موعد مع مشهد أكثر درامية ومأساوية من المشهد السابق، وهو مشهد عبد الناصر وهو يلقي خطابه على مدى ثلث ساعة، صمت الملايين فيها صمت الموتى، وتأكد لمن كانوا لا يزالون يُغلّبون الأمل على اليأس أن الهزيمة قد وقعت، وأن البطل الهمام قرر أن يترك المركب واختار من سيحكمهم بدلا منه. وبعد انتهاء الخطاب تبدد الصمت شيئًا فشيئا، ليعلو صوت البكاء الذي تحول تدريجيا إلى نشيج مكتوم، ثم إلى عويل، ثم إلى صراخ يطلق هتافات تقول: «ناصر، ناصر، كلنا عايزين ناصر».

...

نكمل غداً بإذن الله.
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.