هل كان أخناتون ملكاً ضعيفاً؟

27 يناير 2019
+ الخط -
شخصية مثيرة حيكت حولها الأساطير، ودارت حولها الأقاويل؛ مجّدها بعضهم حتى وصلوا بها إلى مرتبة الأنبياء والمرسلين، وحطّ من مكانتها آخرون، فوصفوا صاحبها بأنه "شاذ في عقله، شاذ في خلقه، منحدر إلى الحضيض في بعض تصرفاته"، إنه أخناتون "أمنحوتب الرابع" الذي يعني اسمه: "آمون راض".
كان نحيفا، طويل القامة، منحنى الظهر، ذا أكتاف ضيقة وأرجلا رفيعة وطويلة، كان وجهه طويلا وعيناه كبيرتين غائرتين، فقد كان يعاني من ضعف ومرض لازمه طوال حياته.
ولد أمنحوتب ونشأ في مدينة أرمنت بالقرب من طيبة (الأقصر حاليًا) عام 1389 ق.م، ونشأ مرهف الحس دائم التفكير شارد الذهن. وفي أغلب أوقاته، كان صامتا مترددا متطلعا لقرص الشمس المستدير الذى صوّر أشعتها فيما بعد على جدران معبده؛ كما لو أنها أذرع طويلة، تنتهى بأيد تلمس جميع المخلوقات في سعادة وهناء.
دعا أخناتون إلى عبادة "آتون" إلها واحدا ليس له مثيل، وأقام له معبدا بطيبة، وأهمل معبد "آمون"، وسمّى مدينة طيبة باسم "ضياء آتون"، ولم يرض أخناتون بأفعال كهنة آمون وضغطهم على الأفكار باسم الدين ونشر الفساد السياسي، وقال قولته المشهورة: "إنّ أقوال الكهنة لأشد إثما من كل ما سمعت"، وقد رأى كهنة آمون في هذا الأمر خطرا وتهديدا حقيقيا لهم ولمعبودهم فبدؤوا يتهامسون ويدبرون المكائد.
ولم تكن دعوته تلك تنصب على المعتقدات الدينية فقط، بل تعدّت ذلك إلى تغيير شامل لكل مظاهر الحضارة، وتمثلت أصول دعوته في "الحقيقة والواقع"، فاعتمد في إقناع تابعيه على البراهين الظاهرة الدالة على سلطان معبوده، ولم يتخذ لمعبوده هذا شكلا حيوانيا كغيره من أرباب مصر القديمة!
وبالرغم من ذلك؛ لم يكن أخناتون من الشخصيات التي تواجه التحديات أو تعمل على حل المشكلات بل كان يسعى دائما إلى الهدوء والسكون وينشد المودة والسلام، لذا فقد آثر البعد عن موطن القلاقل بطيبة؛ فتركها ومعبودها واتجه نحو مدينته الجديدة التي أنشأها وهى مدينة "أخت – آتون" (تل العمارنة في المنيا حاليا)؛ وهى تبعد عن طيبة شمالا ما يقرب من أربعمائة متر.
انشغل أخناتون بديانته الجديدة عن أمور الدولة وشؤون الحكم؛ حتى أنّ سفراء البلاد وحكام الولايات كانوا يأتون إليه رافعين شكاواهم، بسبب التهديدات الخارجية التي تعرّضت لها ولاياتهم؛ فلم يستطع أن يقدم لهم غير الترحاب والهدايا، وذهبت نداءاتهم واستغاثاتهم أدراج الرياح، فازدادت قوة أعدائه؛ كالحيثيين في آسيا وتحدوا سيادة مصر وممتلكاتها الخارجية!
وعند محاصرة القدس، استغاث به حاكمها طالبا منه النجدة؛ كما يظهر ذلك في رسالته التي أرسلها إلى كاتب الملك: "إن كل بلاد سيدى الملك في طريقها إلى الخراب، أخبر الملك صراحة أن بلاده في طريقها إلى الضياع"
كما استجار به أيضا حاكم مدينة جبيل في لبنان، ورجاه أن يرسل له جيشا لنجدته، قائلا له: "إنني في مدينة جبيل هذه مثل طائر وقع في الشرك"، ولما لم يستجب أخناتون لرجائه، بعث إليه رسالته الأخيرة المحزنة: "إن لم تأت نجدة فإني إذن رجل ميت".
ولم تهّب العواصف على الإمبراطورية المصرية في عهد أخناتون من الخارج فقط؛ بل ثارت قلاقل أيضا من داخل مصر؛ حيث سخط النبلاء المقيمون في طيبة، وازدادت قوتهم، وخرج الكهنة من مخابئهم، وأعادوا عبادة آمون المحظورة، وتجاهل أخناتون هذه المعارضة، ورفض أن يواجهها، كما رفض أن يوجهه أحد إلى النظر في تلك المشكلات.
وازداد الأمر سوءا، عندما ماتت ابنته الكبرى "مكت - آتون"، علاه الهم والغم والارتباك، وزاد وجهه نحولا، ولم تعد عيناه تتلألأن في ضوء الشمس، وقد بدا عليه الضعف حتى تجاه عقيدته ودعوته، بعد أن أنهك بدنه وأفنى جسمه في إقناع الناس بها.
ولم يستطع أحد أن يُخرج الملك من حياة الوهم التي كان يحياها حتى ضاعت الإمبراطورية التي أنشأها أسلافه، وبدأ في الهروب من هذا الواقع المؤلم إلى الملذات واحتساء النبيذ والاستماع إلى الموسيقى. وبدأ في أثناء ذلك في تبادل الرسائل مع كهنة آمون بطيبة، محاولا أن يصل معهم إلى اتفاق، شريطة أن يتركوه وشأنه، وأن يسمحوا له بالاحتفاظ بعرشه.
وعلى الرغم من أن الإصلاح الديني الذى جاء به أخناتون أخذ جُل وقته، إلا أن السكان العاديين في المملكة ظلوا على عقيدتهم التقليدية بالتعبد إلى آمون وتقديم القرابين له، وطلب الشفاعة منه، وهذا ربما كان بسبب أنّ الإصلاح الذي جاء به كان إصلاحا فوقيا جاء من سلطة عليا.
وفى عام 1358ق.م؛ مات أخناتون، مات بعد أن أنهكه المرض، وبلغ به الحزن مداه، ودمرت مدينته "أخت - آتون"، وظلّت مرتعا للحيوانات المفترسة والطيور الجارحة والحشرات والزواحف القاتلة.
مات أخناتون بعد أن حكم سبعة عشر عاما، واختفى من دون أن نعلم ما حدث له في نهاية عمره، غير أن باحثين رجحوا أن موته كان نتيجة مؤامرات ودسائس دبرت لقتله.
حسين دقيل
حسين دقيل
حسين دقيل
باحث متخصّص في الآثار، دكتوراه في الآثار اليونانية والرومانية من جامعة الإسكندرية في مصر. العبارة المفضّلة لديه "من لم يهتم بتراثه ويحافظ عليه فلا مستقبل له".
حسين دقيل