ما شهدته واشنطن، أمس الثلاثاء، كان غير اعتيادي، وقد يكون نقطة تحول لرئاسة دونالد ترامب والحزب الجمهوري في آن، إذ فتح اثنان من أبرز وجوه الجمهوريين في مجلس الشيوخ، هما جاف فلاك وبوب كوركر، النار الحارقة على الرئيس، من زاوية أنه "غير جدير" بمنصب الرئاسة.
المفردات التي استخدمت كانت غير مسبوقة منذ فترة الماكارثية في خمسينات القرن الماضي، وفضيحة ووترغيت في بداية السبعينات.
"الرئيس خطير، عنده مشكلة مع الصدق، أحمق، غير متزن، تركته ستكون مذلّة لأميركا.."، هذا غيضٌ من فيض الألقاب والأوصاف التي وجهها ماكين وكوركر للرئيس، بعد أن طفح الكيل وانقطعت الشعرة بينهما وبينه.
الانفجار المذهل ليس ابن ساعته، فالاحتقان يتراكم منذ عدة شهور، بالغمز والتراشق والملاسنة بين البيت الأبيض وعدد من أقطاب الجمهوريين، على رأسهم ماكين، رئيس لجنة القوات المسلحة، والذي "قطع العلاقة" تقريباً مع الرئيس وكرر لمرات عديدة انتقاداته لساكن البيت الأبيض، فيما تعمد السناتور كوركر، رئيس لجنة العلاقات الخارجية في المجلس، إعطاء عدة تصريحات لوسائل الإعلام، لسرد مآخذه على الرئيس وشطحاته.
أما السناتور جاف فلاك، صاحب الحضور المؤثر، فقد انضم إلى المجموعة في خطاب ترك أصداء واسعة، ألقاه في قاعة المجلس، وكشف خلاله عن قراره بعدم الترشيح لمقعده في انتخابات العام القادم. وكان كوركر قد أعلن هو الآخر القرار نفسه.
عزوف وجوه الجمهوريين عن خوض الانتخابات حررهم من الضوابط الحزبية لكسر حبل الصمت بهذه الصورة الفاقعة. يشاركهم في ذلك كثيرون من الجمهوريين في مجلسي الشيوخ والنواب، ولو من غير بوحٍ به، إذ تحول الاعتبارات الانتخابية دون ذلك.
ونتج عن هذا التمرد الفاضح أمران: فمن جهة كشف عن تفاقم أزمة الحزب الجمهوري الذي بات في حالة قريبة من انعدام التوازن. وفضح تفسخه بعد أن تحوّل قسم من قواعده باتجاه التيار الشعبوي، الذي يقوده ستيف بانون بعد خروجه من البيت الأبيض بالنيابة عن الرئيس ترامب، والذي أعلنها حرباً شاملة على مؤسسة الحزب ورموزه، وخطه المحافظ التقليدي المتوارث.
ومن هذا المنطلق، هدّد بانون بخوض معركة الكونغرس في العام القادم بمرشحين منافسين لمرشحي الحزب في كافة الولايات والدوائر الانتخابية.
امتحان قد يتعثر فيه الجمهوريون المهتزة أوضاعهم، خاصة إذا جاءت الانتخابات من غير أن يكونوا قد حققوا أياً من الإنجازات الموعودة. احتمال أثار خشية مرجعيات جمهورية، وأدى إلى استنفارها لاستدراك الأمور.
الرئيس بوش الابن خرج من تقاعده السياسي قبل أيام ليلقي خطاباً يحذر فيه من ممارسات الرئيس ترامب ولو من غير ذكر اسمه. أزمة الجمهوري عاتية وهو في موقع القرار في مجلسي الكونغرس وفي البيت الأبيض المحسوب عليه، وإن بالاسم، لكنه عاجز عن التصدي لأي من التحديات المطروحة، في الداخل والخارج.
الحزب مشغول بتقليل خسائر اشتباكاته مع الرئيس، التي تبدو سائرة نحو المزيد من التصعيد.
من جهة ثانية، صبّ هذا التمرد الزيت على نار الحديث عن "أهلية الرئيس". فهذا الموضوع متداول بجدية في الآونة الأخيرة، وهو الآن أخذ المزيد من الزخم.
ما قاله كوركر وفلاك وماكين وبوش، وغيرهم من الجمهوريين، عزز الحيثيات، لكونها صادرة عن أهل البيت، وجدّد الحديث عن "العزل" من المنصب.
ثمة حملة إعلانات في وسائل الإعلام، وخاصة المرئية منها، لحمل الكونغرس على الإطاحة بالرئيس. الميلياردير توم ستاير يمول أحدها، توازيها مقالات في الصحف ومداخلات في البرامج الإخبارية، تدفع باتجاه استحضار التعديل الخامس والعشرين للدستور الذي ينص على عزل الرئيس "لو مارس الخيانة أو قبل الرشوة، أو ارتكب جرائم كبيرة، أو إحدى الجنح".
ومع أن قانونيين كباراً نظّروا لانطباق النص على الحالة الراهنة، مثل كاس سانستين، أستاذ الحقوق في جامعة هارفارد، إلا أن هناك اعتقاداً بأن إثبات مثل هذه التهم صعب جداً إن لم يكن مستحيلاً في اللحظة الراهنة، إذ لا أثر ملموساً لها، ولأن هناك من يتوسع في تفسير النص.
يضاف إلى ذلك أن هذا الخيار غير وارد الآن في الكونغرس عموماً، وبحزبيه، فالاعتبارات الانتخابية تحول دون هذا التوجّه. ثم إن هناك تهيّباً لمثل هذه الخطوة، إلا إذا انتهت التحقيقات الروسية إلى مَمْسكٍ من الوزن الثقيل. لكن بداية انفضاض الجمهوريين من حول الرئيس بهذا الشكل يعيد إلى الذاكرة حالة مشابهة مع اختلاف ظروف الاثنين، عندما انقلب الجمهوريون على الرئيس ريتشارد ميلهاوس نيكسون بعد أن ثبتت التهمة ضده، بحيث أدى ذلك إلى استقالته.
الخاسر الأكبر في الوقت الراهن هو الدبلوماسية الأميركية، التي يقوم رئيسها الوزير ريكس تيلرسون بجولة في الخارج شملت المنطقة العربية، إذ "كيف سيأخذ الآخرون هذه الاتصالات على محمل الجدّ وهم يتفرجون على ما يجري في واشنطن؟". سؤال يردده المراقبون بكثير من التخوف من عواقب الاشتباك السياسي الجارية فصوله بين الكونغرس والبيت الأبيض.