17 نوفمبر 2024
هل انتهى حلم تركيا الأوروبي؟
صوّت البرلمان الأوروبي، في 23 نوفمبر/ تشرين الثاني 2016، على قرار تعليق مفاوضات انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، ولو مؤقتاً، مبرّراً ذلك بالظروف التي عايشتها تركيا بعيد إعلان حالة الطوارئ، إثر محاولة الانقلاب الفاشلة التي تعرضت لها في 15 يوليو/ تموز الماضي، وأثار القرار تساؤلاتٍ حول توقيته وحيثياته وتبعاته، وما إذا كان القادة الأوروبيون سيعتمدونه، بما يفضي إلى نهاية حلمٍ تركي، بدأ بعد طول انتظار.
وترجع بدايات حلم تركيا الأوروبي إلى الالتزام الأيديولوجي للنخب الحاكمة في تركيا بأن تصبح بلادهم جزءاً من أوروبا، وتمتدّ جذوره إلى إرث الأتاتوركية الضارب في النفوس، بعد أفول الإمبراطورية العثمانية، فما دام تاريخ العالم قد عرف انتقالاً من الشرق نحو الغرب، على النحو الذي صوّره الفيلسوف هيغل، باعتبار أن أوروبا تمثّل، بالنسبة إليه، نهاية التاريخ على نحو مطلق، فقد تصوّرت كذلك حركة "تركيا الفتاة" أن في الوسع اختراع هوية أوروبية (غربية) لتركيا، لكي تركن بدورها إلى نهاية التاريخ، خصوصاً أن قدر تركيا الجغرافي أن تتوزّع بين قارتي آسيا (القسم الأعظم) وأوروبا (القسم الأصغر)، وما ينتج عن ذلك من ازدواج في الهوية، ما بين أوروبية محدثة وآسيوية/ إسلامية متأصلة.
لم يُفاجأ المسؤولون الأتراك بقرار التعليق، بل طالب الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، الشعب التركي بأن يتعامل مع مسألة عضوية الاتحاد الأوروبي بأريحية، معتبراً مسألة الالتحاق بأوروبا ليست نهاية العالم. ولم يخف أردوغان نياته في تغيير الوجهة نحو آسيا، من خلال نية بلاده الانضمام إلى منظمة شنغهاي للتعاون التي تضم الصين وروسيا وكازاخستان وقرغيزيا وأوزبكستان، في حين أن وزير الخارجية، مولود جاويش أوغلو، اعتبر أن قرار البرلمان الأوروبي لا يحمل أي أهميةٍ بالنسبة إلى بلاده، وأن الاتحاد ليس في مستوىً يؤهله لتلقين تركيا الدروس، واتهم من يقف خلف القرار بأنهم "حزنوا على فشل الانقلاب في تركيا، وهم ذاتهم الداعمون لـ تنظيم حزب العمال الكردستاني الإرهابي".
ويلخص موقف المسؤولين الأتراك تأزم علاقة بلدهم مع معظم دول الاتحاد الأوروبي التي بدأت تتدهور بشكل متسارع، بعد محاولة الانقلاب الفاشلة، نظراً لأن المواقف الأوروبية حيالها اتسمت، في البداية، بصمت مريب أحياناً، وبتصريحاتٍ لا معنى لها في معظم الأحيان، حيث صمت الساسة الغربيون، خلال الساعات الأولى للمحاولة الانقلابية، ولم يدينوها أو يستنكروها، إلا بعد ظهور بوادر فشلها، ما أثار حفيظة الأتراك، وجعلهم يشيرون إلى أن ساسة الغرب لم يكونوا في موقف المتفرّج على ما كان يحدث في تركيا، ليلة المحاولة الانقلابية الفاشلة، بقدر ما كانوا شركاء فيها، بشكل أو بآخر، بل إن بعضهم كان يتمنى نجاحها.
وزاد من وتيرة تأزم العلاقات التركية مع الاتحاد الأوروبي ما جرى من عمليات ملاحقة
وتوقيف بعد محاولة الانقلاب، حيث ركّزت المواقف الأوروبية على ضرورة احترام الديمقراطية ومؤسساتها، والنظام الدستوري، ودولة القانون، والحريات الأساسية بشكل كامل، مع تشديد الاتحاد الأوروبي على ضرورة أن تحترم السلطات التركية القوانين، وأن يكون ردّها على منفذي المحاولة الانقلابية والمشاركين فيها، "ضمن إطار احترام دولة القانون".
وقد أثارت المواقف الأوروبية امتعاض المسؤولين الأتراك الذين أبدوا استغرابهم من مواقف "الحلفاء"، فقد اعتبر الوزير مولود جاويش أوغلو أن الانتقادات الأوروبية بخصوص "تعامل تركيا مع المشتبه بتدبيرهم الانقلاب"، ترقى إلى مستوى دعم المحاولة الفاشلة التي سعت لإطاحة الحكومة".
وعلى خلفية التأزم، بدأ المسؤولون الأوروبيون يلوّحون بورقة إيقاف مفاوضات انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، فيما بدأ المسؤولون الأتراك، في المقابل، يطرحون تساؤلاتٍ عن ممكنات الاستفادة من دخول بلادهم الاتحاد الأوروبي، وراحوا يشكون في واقعية قبول تركيا في النادي الأوروبي، وفي مدى حاجة بلادهم الدخول إليه. وطاولت التساؤلات مواقف الاتحاد من الأخطار التي تواجه تركيا، وخصوصاً مواقفه من أزمة اللاجئين، ومن حزب العمال الكردستاني، ومن جماعة فتح الله غولن، ومن الأزمة القبرصية، ومن القضية الأرمنية، وسوى ذلك كثير.
وخلال سعيها إلى الانضمام إلى النادي الأوروبي، ترجمت القيادات السياسية التركية ذلك عبر محاولات دخول "المجموعة الاقتصادية الأوروبية" أو "السوق الأوروبية المشتركة" في 1957 بموجب اتفاقية روما، حيث طلبت تركيا الانضمام إليها في عام 1959، ولم يتم ذلك، لكن في 12 سبتمبر/ أيلول عام 1963، جرى توقيع اتفاقية شراكة بين أنقرة والسوق الأوروبية المشتركة أساساً للتفاوض بينهما، لإتمام العضوية الكاملة لتركيا. وبعد جولاتٍ عديدة من التفاوض، وموجات من المدّ والجزر بين الطرفين، قدمت تركيا طلب انضمام بعضوية كاملة في 14 إبريل/ نيسان عام 1987.
وبعد إقرار معاهدة ماستريخت عام 1992، وأنشئ على إثرها الاتحاد الأوروبي رسمياً، ثم أقرّ في قمة كوبنهاغن، عام 1993، الشروط والإجراءات التي يجب أن تستوفيها الدول الراغبة بالانضمام إليه، وقّعت تركيا اتفاقية اتحاد جمركي مع الاتحاد الأوروبي في 31 ديسمبر/ كانون الأول عام 1995، ثم اعتُرف رسمياً بتركيا مرشحاً للعضوية الكاملة في الاتحاد الأوروبي في 12 ديسمبر/ كانون الأول عام 1999، واستدعى ذلك مفاوضات شاقة ومديدة، أفضت إلى إعلان المفوضية الأوروبية فتح فصول انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي في 30 أغسطس/ آب 2005.
وتنهض آلية عمل الاتحاد الأوروبي لقبول عضوية دول جديدة، على أساس الفصول، وعددها 35 فصلاً، واردة في نظام الاتحاد الأوروبي، وعلى الدول الطامحة للانضمام إليه تحقيق ما ورد فيها.
وعبر مسيرة التفاوض الطويلة، بلغ عدد فصول التفاوض التي فتحت بين تركيا والاتحاد 15
فصلاً، تضمنت التنقل الحر لرؤوس الأموال، وقانوني الشركات والملكية الفكرية ومجتمع المعلومات والإعلام والأمن الغذائي والصحة الحيوانية والنباتية وفرض الضرائب والإحصائيات وسياسة الإدارة والصناعة والشبكات عبر أوروبا والعلوم والأبحاث والبيئة وحماية المستهلك والصحة والتحكم المالي والعلوم والأبحاث والسياسات الاقتصادية والنقدية.
واتخذ المجلس الأوروبي قراراً في شهر ديسمبر/ كانون الأول 2006 أوقف بموجبه فتح ثمانية أبواب أمام المفاوضات، وأرجع الأسباب إلى أن تركيا لم تف بشكل تام بالتزاماتها النابعة من البروتوكول الإضافي الملحق باتفاقية أنقرة، المتعلقة بالموقف التركي تجاه قبرص الجنوبية اليونانية، وتشمل هذه الفصول التجوال الحر للبضائع وحرية إقامة الأعمال وتقديم الخدمات والخدمات المالية والتنمية الزراعية والريفية وصيد الأسماك وسياسة النقل والاتحاد الجمركي والعلاقات الخارجية.
وكان فتح فصول التفاوض يتم عبر آليةٍ بطيئة، وفق نهجٍ لا يُفضي إلى تحقيق الحلم التركي بالانضمام، بل يهدف، حسب جهة النظر الأوروبية، إلى التفاوض من أجل دعم المسعى التركي الهادف إلى تحديث البلاد، وفقاً للمعايير الأوروبية. وهو مسعى قوي وعميق، وجد دلالاته في التغيرات والإصلاحات التي شهدتها تركيا خلال العقود الماضية.
وكشفت مسيرة التفاوض من أجل الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي أن دول شرق أوروبا ووسطها انضمت إلى الاتحاد، على الرغم من أنها أقلّ دمقرطة من تركيا، إضافة إلى أن مستواها الاقتصادي أقل من مستوى تركيا الاقتصادي، ومؤسساتها أضعف منها، ما حدا ببعض الأتراك إلى التشكيك بإمكانية انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، لأسبابٍ تتعلق بأنها دولة إسلامية كبيرة، بحجمها الجغرافي، وبتاريخها العريق وريثة الإمبراطورية العثمانية التي ما زالت أوروبا تتذكّر جيوشها وفتوحاتها، وبالتالي، لن يفتح الاتحاد الأوروبي أبوابه ليدخل أحفاد العثمانيين، الأمر الذي يؤكد صحة كلام رئيس الوزراء البريطاني السابق، ديفيد كاميرون، الذي اعتبر فيه أن انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي مجرد احتمال بعيد، ويمكن ألا يحصل قبل العام نهاية الألفية الثالثة.
وبصرف النظر عن تأزم العلاقات التركية الأوروبية، شغلت مسألة احتمال انضمام تركيا إلى الاتحاد، من سنوات عديدة، ليس فقط حكومات الدول الأعضاء فيه، بل الرأي العام التركي والأوروبي، واستحوذت على قدر كبيرٍ من الجدل الدائر في وسائل الإعلام الأوروبية التي عكست مواقف الأوروبيين غير المرحبة بانضمام تركيا، نظراً إلى طغيان صور نمطيةٍ عن الأتراك والمسلمين، وسهولة تمرير رؤى ديماغوجية وشعبوية.
غير أن انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي طرح، في حقيقة الأمر، إشكاليات ذات طبيعة خاصة، تتعلق بالهوية الدينية والثقافية، إضافة إلى الوزن الديموغرافي لتركيا وحالتها
الاقتصادية وموقعها الجغرافي المميز، وأظهر أن الطريق أمام انضمامها طويلة وشاقة، حتى وإن تمكّنت تركيا من تلبية كل متطلبات "معايير كوبنهاغن" التي اتفق عليها الأوروبيون.
وخلال مسيرة المفاوضات بين تركيا والاتحاد الأوروبي، أنجزت الحكومة التركية إصلاحات كبيرة، تضمنت رزمة إصلاحات مذهلة في وقت قصير نسبياً منها: إلغاء عقوبة الإعدام، وتغيير أنظمة السجون، بما فيها حماية السجناء من التعذيب، وتعزيز حرية التعبير، والشفافية، وإرساء دائم لدولة القانون بإلغاء محاكم أمن الدولة والمحاكم الاستثنائية، والاعتراف بأولوية التشريعات الدولية على حساب القوانين الوطنية في مجالات حقوق الإنسان، واعتمادها بمثابة المرجعية بالنسبة للمحاكم التركية. والأهم هو تعزيز سلطة البرلمان، وقوانين المساواة، ومراقبة نفقات القوات المسلحة، وتقليص صلاحيات مجلس الأمن القومي. وانخفض تأثير الجيش التركي في إدارة العلاقات الخارجية عبر تقليص سلطته في هذا المجال.
وإن كان دخول تركيا منظومة الاتحاد الأوروبي سيجلب معه، من دون شك، بعض المصاعب، إلا أن تجميد انضمامها (أو تعليقه) سيجلب تحديات استراتيجية عديدة، خصوصاً أن الأتراك قاموا بتحوّلات اقتصادية واجتماعية وسياسية عميقة، بغية الوصول إلى المعايير الأوروبية المطلوبة، وساعدهم في ذلك ثلة من السياسيين والمفكّرين والمثقفين الذين يميلون نحو الغرب، إضافة إلى مجتمع الأعمال التركي ومنظمات غير حكومية، وبشكل يمكن القول معه إن المجتمع المدني في تركيا أخذ مشروع الغربنة على عاتقه، بعد أن كانت الدولة التركية قد أطلقته، وذلك مع نضوج رأي مدني عام.
وبالنسبة إلى من يؤمنون برسالة تركيا الأوروبية، ويعتبرون أن نظاماً ديموقراطياً ليبرالياً هو الضمانة الأفضل لوحدة البلاد وازدهارها، كانت هذه الرحلة الطويلة مفيدة، فقد ساعدت العلاقات مع الاتحاد الأوروبي التي ترتكز إلى الموجبات التعاقدية المتبادلة التي حُدِّدت، أولاً، في اتفاقية أنقرة، في مأسسة اقتصاد السوق في تركيا. كما ساهمت الروابط الاقتصادية المتنوّعة والمعقّدة والقوية مع الاتحاد الأوروبي في بناء قدرة تركيا على الاندماج في الاقتصاد العالمي، والتنافس في الأسواق العالمية، من خلال نوعية العمل والإنتاج.
ويبدو أن القادة الأتراك وصلوا إلى قناعةٍ مفادها بأنه لا أمل لتركيا في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، على الأقل في المدى المنظور أو القريب. لذلك، يشعر الأتراك بأن الأوروبيين خذلوهم، بل و"خدعوهم"، عندما وضعوا في وجه تركيا مختلف العوائق والعراقيل والشروط التعجيزية، بهدف منعها من الانضمام إلى "جنة" الاتحاد الأوروبي.
ولا تترك كل هذه المؤشرات أمام القادة الأتراك سوى البحث عن خيارات جديدة، وتجعل الأتراك يطوون صفحة التوجه نحو الحلم الأوروبي جدّياً، هذه المرّة، ويتوجهون نحو محيطهم الآسيوي والعربي – الإسلامي، أي أن يتجهوا شرقاً، بدلاً من الوجهة نحو الغرب.
وفي سياق هذا التوجه الآسيوي، بدأ القادة الأتراك يكثرون في الآونة الأخيرة من زياراتهم دول الجوار، ويسعون إلى إقامة تحالفاتٍ مع كل من روسيا والصين وسواهما، وإلى تعزيز دور بلادهم الإقليمي، إلى جانب ما تشهده الأوضاع الداخلية في تركيا من تغيرات ملموسة، من جهة تحوّل الوجهة والمزاج الشعبي، إذ انتعشت التوجهات والنزعات القومية اليمينية، وازدادت شعبية الأحزاب القومية والإسلامية، وباتت أوساط واسعة من الشعب التركي ترفض التوجه نحو الغرب الأوروبي، واهتزت الثقة بـ"القارة العجوز". وفي المحصلة، يبدو أن القيادة التركية تريد توجيه رسالة، مفادها بأنه إذا كان الغرب سيغلق أبوابه أمامهم، فإنهم سيقومون باستدارة كاملة نحو الشرق.
وترجع بدايات حلم تركيا الأوروبي إلى الالتزام الأيديولوجي للنخب الحاكمة في تركيا بأن تصبح بلادهم جزءاً من أوروبا، وتمتدّ جذوره إلى إرث الأتاتوركية الضارب في النفوس، بعد أفول الإمبراطورية العثمانية، فما دام تاريخ العالم قد عرف انتقالاً من الشرق نحو الغرب، على النحو الذي صوّره الفيلسوف هيغل، باعتبار أن أوروبا تمثّل، بالنسبة إليه، نهاية التاريخ على نحو مطلق، فقد تصوّرت كذلك حركة "تركيا الفتاة" أن في الوسع اختراع هوية أوروبية (غربية) لتركيا، لكي تركن بدورها إلى نهاية التاريخ، خصوصاً أن قدر تركيا الجغرافي أن تتوزّع بين قارتي آسيا (القسم الأعظم) وأوروبا (القسم الأصغر)، وما ينتج عن ذلك من ازدواج في الهوية، ما بين أوروبية محدثة وآسيوية/ إسلامية متأصلة.
لم يُفاجأ المسؤولون الأتراك بقرار التعليق، بل طالب الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، الشعب التركي بأن يتعامل مع مسألة عضوية الاتحاد الأوروبي بأريحية، معتبراً مسألة الالتحاق بأوروبا ليست نهاية العالم. ولم يخف أردوغان نياته في تغيير الوجهة نحو آسيا، من خلال نية بلاده الانضمام إلى منظمة شنغهاي للتعاون التي تضم الصين وروسيا وكازاخستان وقرغيزيا وأوزبكستان، في حين أن وزير الخارجية، مولود جاويش أوغلو، اعتبر أن قرار البرلمان الأوروبي لا يحمل أي أهميةٍ بالنسبة إلى بلاده، وأن الاتحاد ليس في مستوىً يؤهله لتلقين تركيا الدروس، واتهم من يقف خلف القرار بأنهم "حزنوا على فشل الانقلاب في تركيا، وهم ذاتهم الداعمون لـ تنظيم حزب العمال الكردستاني الإرهابي".
ويلخص موقف المسؤولين الأتراك تأزم علاقة بلدهم مع معظم دول الاتحاد الأوروبي التي بدأت تتدهور بشكل متسارع، بعد محاولة الانقلاب الفاشلة، نظراً لأن المواقف الأوروبية حيالها اتسمت، في البداية، بصمت مريب أحياناً، وبتصريحاتٍ لا معنى لها في معظم الأحيان، حيث صمت الساسة الغربيون، خلال الساعات الأولى للمحاولة الانقلابية، ولم يدينوها أو يستنكروها، إلا بعد ظهور بوادر فشلها، ما أثار حفيظة الأتراك، وجعلهم يشيرون إلى أن ساسة الغرب لم يكونوا في موقف المتفرّج على ما كان يحدث في تركيا، ليلة المحاولة الانقلابية الفاشلة، بقدر ما كانوا شركاء فيها، بشكل أو بآخر، بل إن بعضهم كان يتمنى نجاحها.
وزاد من وتيرة تأزم العلاقات التركية مع الاتحاد الأوروبي ما جرى من عمليات ملاحقة
وقد أثارت المواقف الأوروبية امتعاض المسؤولين الأتراك الذين أبدوا استغرابهم من مواقف "الحلفاء"، فقد اعتبر الوزير مولود جاويش أوغلو أن الانتقادات الأوروبية بخصوص "تعامل تركيا مع المشتبه بتدبيرهم الانقلاب"، ترقى إلى مستوى دعم المحاولة الفاشلة التي سعت لإطاحة الحكومة".
وعلى خلفية التأزم، بدأ المسؤولون الأوروبيون يلوّحون بورقة إيقاف مفاوضات انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، فيما بدأ المسؤولون الأتراك، في المقابل، يطرحون تساؤلاتٍ عن ممكنات الاستفادة من دخول بلادهم الاتحاد الأوروبي، وراحوا يشكون في واقعية قبول تركيا في النادي الأوروبي، وفي مدى حاجة بلادهم الدخول إليه. وطاولت التساؤلات مواقف الاتحاد من الأخطار التي تواجه تركيا، وخصوصاً مواقفه من أزمة اللاجئين، ومن حزب العمال الكردستاني، ومن جماعة فتح الله غولن، ومن الأزمة القبرصية، ومن القضية الأرمنية، وسوى ذلك كثير.
وخلال سعيها إلى الانضمام إلى النادي الأوروبي، ترجمت القيادات السياسية التركية ذلك عبر محاولات دخول "المجموعة الاقتصادية الأوروبية" أو "السوق الأوروبية المشتركة" في 1957 بموجب اتفاقية روما، حيث طلبت تركيا الانضمام إليها في عام 1959، ولم يتم ذلك، لكن في 12 سبتمبر/ أيلول عام 1963، جرى توقيع اتفاقية شراكة بين أنقرة والسوق الأوروبية المشتركة أساساً للتفاوض بينهما، لإتمام العضوية الكاملة لتركيا. وبعد جولاتٍ عديدة من التفاوض، وموجات من المدّ والجزر بين الطرفين، قدمت تركيا طلب انضمام بعضوية كاملة في 14 إبريل/ نيسان عام 1987.
وبعد إقرار معاهدة ماستريخت عام 1992، وأنشئ على إثرها الاتحاد الأوروبي رسمياً، ثم أقرّ في قمة كوبنهاغن، عام 1993، الشروط والإجراءات التي يجب أن تستوفيها الدول الراغبة بالانضمام إليه، وقّعت تركيا اتفاقية اتحاد جمركي مع الاتحاد الأوروبي في 31 ديسمبر/ كانون الأول عام 1995، ثم اعتُرف رسمياً بتركيا مرشحاً للعضوية الكاملة في الاتحاد الأوروبي في 12 ديسمبر/ كانون الأول عام 1999، واستدعى ذلك مفاوضات شاقة ومديدة، أفضت إلى إعلان المفوضية الأوروبية فتح فصول انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي في 30 أغسطس/ آب 2005.
وتنهض آلية عمل الاتحاد الأوروبي لقبول عضوية دول جديدة، على أساس الفصول، وعددها 35 فصلاً، واردة في نظام الاتحاد الأوروبي، وعلى الدول الطامحة للانضمام إليه تحقيق ما ورد فيها.
وعبر مسيرة التفاوض الطويلة، بلغ عدد فصول التفاوض التي فتحت بين تركيا والاتحاد 15
واتخذ المجلس الأوروبي قراراً في شهر ديسمبر/ كانون الأول 2006 أوقف بموجبه فتح ثمانية أبواب أمام المفاوضات، وأرجع الأسباب إلى أن تركيا لم تف بشكل تام بالتزاماتها النابعة من البروتوكول الإضافي الملحق باتفاقية أنقرة، المتعلقة بالموقف التركي تجاه قبرص الجنوبية اليونانية، وتشمل هذه الفصول التجوال الحر للبضائع وحرية إقامة الأعمال وتقديم الخدمات والخدمات المالية والتنمية الزراعية والريفية وصيد الأسماك وسياسة النقل والاتحاد الجمركي والعلاقات الخارجية.
وكان فتح فصول التفاوض يتم عبر آليةٍ بطيئة، وفق نهجٍ لا يُفضي إلى تحقيق الحلم التركي بالانضمام، بل يهدف، حسب جهة النظر الأوروبية، إلى التفاوض من أجل دعم المسعى التركي الهادف إلى تحديث البلاد، وفقاً للمعايير الأوروبية. وهو مسعى قوي وعميق، وجد دلالاته في التغيرات والإصلاحات التي شهدتها تركيا خلال العقود الماضية.
وكشفت مسيرة التفاوض من أجل الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي أن دول شرق أوروبا ووسطها انضمت إلى الاتحاد، على الرغم من أنها أقلّ دمقرطة من تركيا، إضافة إلى أن مستواها الاقتصادي أقل من مستوى تركيا الاقتصادي، ومؤسساتها أضعف منها، ما حدا ببعض الأتراك إلى التشكيك بإمكانية انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، لأسبابٍ تتعلق بأنها دولة إسلامية كبيرة، بحجمها الجغرافي، وبتاريخها العريق وريثة الإمبراطورية العثمانية التي ما زالت أوروبا تتذكّر جيوشها وفتوحاتها، وبالتالي، لن يفتح الاتحاد الأوروبي أبوابه ليدخل أحفاد العثمانيين، الأمر الذي يؤكد صحة كلام رئيس الوزراء البريطاني السابق، ديفيد كاميرون، الذي اعتبر فيه أن انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي مجرد احتمال بعيد، ويمكن ألا يحصل قبل العام نهاية الألفية الثالثة.
وبصرف النظر عن تأزم العلاقات التركية الأوروبية، شغلت مسألة احتمال انضمام تركيا إلى الاتحاد، من سنوات عديدة، ليس فقط حكومات الدول الأعضاء فيه، بل الرأي العام التركي والأوروبي، واستحوذت على قدر كبيرٍ من الجدل الدائر في وسائل الإعلام الأوروبية التي عكست مواقف الأوروبيين غير المرحبة بانضمام تركيا، نظراً إلى طغيان صور نمطيةٍ عن الأتراك والمسلمين، وسهولة تمرير رؤى ديماغوجية وشعبوية.
غير أن انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي طرح، في حقيقة الأمر، إشكاليات ذات طبيعة خاصة، تتعلق بالهوية الدينية والثقافية، إضافة إلى الوزن الديموغرافي لتركيا وحالتها
وخلال مسيرة المفاوضات بين تركيا والاتحاد الأوروبي، أنجزت الحكومة التركية إصلاحات كبيرة، تضمنت رزمة إصلاحات مذهلة في وقت قصير نسبياً منها: إلغاء عقوبة الإعدام، وتغيير أنظمة السجون، بما فيها حماية السجناء من التعذيب، وتعزيز حرية التعبير، والشفافية، وإرساء دائم لدولة القانون بإلغاء محاكم أمن الدولة والمحاكم الاستثنائية، والاعتراف بأولوية التشريعات الدولية على حساب القوانين الوطنية في مجالات حقوق الإنسان، واعتمادها بمثابة المرجعية بالنسبة للمحاكم التركية. والأهم هو تعزيز سلطة البرلمان، وقوانين المساواة، ومراقبة نفقات القوات المسلحة، وتقليص صلاحيات مجلس الأمن القومي. وانخفض تأثير الجيش التركي في إدارة العلاقات الخارجية عبر تقليص سلطته في هذا المجال.
وإن كان دخول تركيا منظومة الاتحاد الأوروبي سيجلب معه، من دون شك، بعض المصاعب، إلا أن تجميد انضمامها (أو تعليقه) سيجلب تحديات استراتيجية عديدة، خصوصاً أن الأتراك قاموا بتحوّلات اقتصادية واجتماعية وسياسية عميقة، بغية الوصول إلى المعايير الأوروبية المطلوبة، وساعدهم في ذلك ثلة من السياسيين والمفكّرين والمثقفين الذين يميلون نحو الغرب، إضافة إلى مجتمع الأعمال التركي ومنظمات غير حكومية، وبشكل يمكن القول معه إن المجتمع المدني في تركيا أخذ مشروع الغربنة على عاتقه، بعد أن كانت الدولة التركية قد أطلقته، وذلك مع نضوج رأي مدني عام.
وبالنسبة إلى من يؤمنون برسالة تركيا الأوروبية، ويعتبرون أن نظاماً ديموقراطياً ليبرالياً هو الضمانة الأفضل لوحدة البلاد وازدهارها، كانت هذه الرحلة الطويلة مفيدة، فقد ساعدت العلاقات مع الاتحاد الأوروبي التي ترتكز إلى الموجبات التعاقدية المتبادلة التي حُدِّدت، أولاً، في اتفاقية أنقرة، في مأسسة اقتصاد السوق في تركيا. كما ساهمت الروابط الاقتصادية المتنوّعة والمعقّدة والقوية مع الاتحاد الأوروبي في بناء قدرة تركيا على الاندماج في الاقتصاد العالمي، والتنافس في الأسواق العالمية، من خلال نوعية العمل والإنتاج.
ويبدو أن القادة الأتراك وصلوا إلى قناعةٍ مفادها بأنه لا أمل لتركيا في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، على الأقل في المدى المنظور أو القريب. لذلك، يشعر الأتراك بأن الأوروبيين خذلوهم، بل و"خدعوهم"، عندما وضعوا في وجه تركيا مختلف العوائق والعراقيل والشروط التعجيزية، بهدف منعها من الانضمام إلى "جنة" الاتحاد الأوروبي.
ولا تترك كل هذه المؤشرات أمام القادة الأتراك سوى البحث عن خيارات جديدة، وتجعل الأتراك يطوون صفحة التوجه نحو الحلم الأوروبي جدّياً، هذه المرّة، ويتوجهون نحو محيطهم الآسيوي والعربي – الإسلامي، أي أن يتجهوا شرقاً، بدلاً من الوجهة نحو الغرب.
وفي سياق هذا التوجه الآسيوي، بدأ القادة الأتراك يكثرون في الآونة الأخيرة من زياراتهم دول الجوار، ويسعون إلى إقامة تحالفاتٍ مع كل من روسيا والصين وسواهما، وإلى تعزيز دور بلادهم الإقليمي، إلى جانب ما تشهده الأوضاع الداخلية في تركيا من تغيرات ملموسة، من جهة تحوّل الوجهة والمزاج الشعبي، إذ انتعشت التوجهات والنزعات القومية اليمينية، وازدادت شعبية الأحزاب القومية والإسلامية، وباتت أوساط واسعة من الشعب التركي ترفض التوجه نحو الغرب الأوروبي، واهتزت الثقة بـ"القارة العجوز". وفي المحصلة، يبدو أن القيادة التركية تريد توجيه رسالة، مفادها بأنه إذا كان الغرب سيغلق أبوابه أمامهم، فإنهم سيقومون باستدارة كاملة نحو الشرق.