هل انتصرت المقاومة في غزة؟
السجال حول الانتصار والهزيمة، في المواجهة بين حركات المقاومة وإسرائيل في العقدين الأخيرين، جزء من تنافس خيارين سياسيين متضادين في الوطن العربي، في الإجابة عن سؤال: ما هو الخيار الأكثر نجاحاً في التعاطي مع الصهاينة؟ يصرّ فريق السلام العربي، في وسائل إعلامه وخطابه السياسي، على اعتبار كل المواجهات التي خاضتها وتخوضها المقاومة مع العدو هزائم نكراء، فالاعتراف بأن حركات المقاومة تنجح في مواجهة العدو، وتحقق إنجازات كبيرة، يعني الاعتراف بفشل خيار التسوية، وتالياً، فشل هذا الفريق في خياره "الاستراتيجي"، الذي يُفْتَرَضُ أنه لا مناص منه، ولا بديل عنه. لذلك، يلجأ هذا الفريق إلى بث الروح الانهزامية في الوطن العربي، والتقليل من كل إنجاز تحققه المقاومة.
نذكر جيداً النقاش مع نهاية حرب تموز/يوليو 2006، وما إذا كانت المقاومة في لبنان حققت انتصاراً، أم جرَّت الويلات على لبنان وشعبه والمنطقة. وعلى الرغم من تكليف لجنة في إسرائيل برئاسة القاضي إلياهو فينوغراد، بدراسة أسباب الإخفاق الإسرائيلي في تلك الحرب، وخلوصها، في تقريرها، إلى حدوث إخفاقات كبيرة وخطيرة، واعترافها بإخفاق الجيش أمام حزب الله، فإن إعلام فريق السلام العربي لم يقتنع، وظل يزايد على الصهاينة أنفسهم، ويرفض الاعتراف بهزيمة اعترفوا هم بها! لم يكن هذا الفريق سعيداً إطلاقاً، وهو يرى المقاومة تنتصر، وتهزم أسطورة الجيش الاسرائيلي، وتحرر جنوب لبنان بلا قيدٍ أو شرط عام 2000، وتصمد في غزة في مواجهة عدوان شرس وحصارٍ قاسٍ في عامي 2008 و 2012، فقد كان يتوقع، وفق إيمانه بأسطورة الجيش الذي لا يقهر، أن تُهْزَم حركات المقاومة شر هزيمة، لكنها حين صمدت وانتصرت، وحرّرت الأرض والأسرى، صُدِم وأصر على الإنكار.
في هذا السجال، يبرز المنطق العددي حجةً على المقاومة، وذريعةً للتشكيك في انتصارها، فعدد ضحايا العدوان هو المعيار الذي يستخدمه فريق السلام العربي، للقول إن المقاومة قد هُزمت، فالضحايا في صفوف المقاومة وأهلها وشعبها أكبر بكثير من قتلى العدو المحتل. هذا المنطق يغفل التجارب التاريخية التي نجحت فيها المقاومة في الانتصار على المحتل، فقد كان لهذا النجاح ثمنه، المتمثل في ارتفاع عدد الضحايا في صفوف المقاومين وشعبهم. في فيتنام، استطاع الفيتناميون الشماليون طرد الأميركيين، بعدما تكبدوا خسائر بشرية فاقت المليون فيتنامي، مقابل عددٍ من قتلى الغزاة الأميركيين، لا يتجاوز 58 ألف جندي. وفي الجزائر، استُشهد مليون ونصف المليون جزائري، ليُخرجوا الفرنسيين الذين خسروا أقل بقليل من 30 ألف عسكري هناك. لو كان المنطق العددي معياراً سليماً للنصر والهزيمة، لقلنا إن الأميركيين انتصروا في فيتنام، والفرنسيين انتصروا في الجزائر.
يقود الخروج من منطق الأعداد هذا، والقبول بوجود ثمنٍ للتحرر والانتصار، والاعتزاز بتضحيات الشهداء (وليس عدم الاكتراث بها، كما يدعي "الإنسانيون" من مروجي المنطق الانهزامي)، إلى الحديث عن معايير النصر والهزيمة، المتعلقة بأهداف الحرب والمتحقق منها، والنتائج العسكرية على الأرض، وإذا كان الاسرائيليون متخبطين إلى درجة عدم وجود أهدافٍ واضحة في عدوان "الجرف الصامد" على غزة، فإن العملية العسكرية ظلت تدور في إطار إضعاف حماس وبقية فصائل المقاومة، وضرب قدرتها الصاروخية، وفرض المنطق الإسرائيلي عليها، بالشراكة مع الأنظمة العربية المساندة للعملية العسكرية.
في هذه الحرب، تعدّت صواريخ غزة المنهمرة على مدن فلسطين المحتلة المدى السابق، ووصلت إلى حيفا، وبقيت تنهمر بالمعدلات نفسها، على الرغم من الضربات الجوية الإسرائيلية، وتسببت في خسائر اقتصادية تفوق المتوقع، بإغلاقها المجال الجوي الصهيوني، عبر استهداف مطار بن غوريون، ما يعني أن فشلاً عسكرياً واستخباراتياً جديداً قد حصل. كذلك كشفت المقاومة عن تطور تقني كبير، بإرسال طائرات من دون طيار، لتحلق فوق سماء فلسطين المحتلة، وأرسلت مجاهديها ليفاجئوا العدو في قواعده العسكرية بعمليات نوعية، وكانت العملية البرية المحدودة وبالاً على الإسرائيليين، إذ فاجأهم المقاومون بتكتيكاتٍ قتاليةٍ، أوقعت خسائر كبيرة في صفوفهم. كل هذا حصل ليعلن انتصار المقاومة على حصارها والتآمر عليها أولاً، فعلى الرغم من كل ما بذله نظام السيسي من جهد لخنق المقاومة، فإنها أظهرت قدرات عسكرية لافتة فاجأت الجميع، وظهرت بشكل أقوى من الحروب السابقة أمام الصهاينة، وفشل الجيش الإسرائيلي في إضعافها، بل أحرجته بقدرتها على مباغتته باستمرار خلال أيام الحرب.
يضاف إلى هذا حجم التضامن العالمي مع قضية فلسطين، والذي زاد مع هذه الحرب، وإعادة البوصلة العربية إلى فلسطين بعد الانغماس في الاحتراب الداخلي العربي، وإجبار السلطة الفلسطينية على تغيير موقفها في أثناء الحرب، وتبني موقف المقاومة، رغبةً في تجنب الصدام مع الشارع الثائر في الصفة الغربية الذي كانت انتفاضته في أثناء الحرب (وحركته قبلها أيضاً)، من إيجابياتٍ صنعتها روح المقاومة، فوحدت الفلسطينيين في كامل الأراضي المحتلة.
انتصرت المقاومة على الأرض في هذه الجولة، ولم تتحقق أهداف العدوان، ويبقى أن يُترجم هذا الانتصار سياسياً قادة قوى المقاومة، ليس فقط بتحقيق شروط المقاومة ورفع الحصار عن غزة، بل، أيضاً، بإعادة خيار المقاومة، ليكون الخيار الوطني الفلسطيني، ويخلف فشل "أوسلو"، وذل التنسيق الأمني مع المحتل.