هل المشرق العربي أرض خلاء؟

12 نوفمبر 2015
+ الخط -
لم تعرف كثير من بلدان المشرق العربي، منذ انفجارات 2011 وتداعياتها المتلاحقة، ما يسمح بتصوُّر واضح لمآلات أوضاعها في الحاضر وفي المستقبل القريب. اختلطت الأوضاع والمواقف، وتطوَّرت بصورةٍ لا تسمح برسم معالم الاحتمالات التي يمكن أن تترتَّب عنها، وأصبح الوضع العام في هذه البلدان ينذر بمزيد من التصعيد الذي يصعب التكهُّن بمختلف نتائجه وآثاره.
اعتقدنا، وما نزال نعتقد، بروح تاريخية، أن الأفق الذي لاحت أمَارَاتُه في أغلب المجتمعات العربية بفعل حراك 2011، عزَّز آمال هذه المجتمعات وتطلعاتها في إسقاط أنظمة الاستبداد، وتكسير الحواجز التي كانت، وما تزال، تحاصر طموحاتها في تحقيق ما يمكِّنُها من بناء أنظمة سياسية، تضعها في طريق النهضة والتقدم، إلاَّ أن الممانعة التي حصلت في اليمن وسورية، خصوصاً، ساهمت في بناء أشكال من التحدي، أدخلت البلدان المذكورة في متاهاتٍ لم تكن كما نتصوَّر، لا مقرَّرة ولا متوقعة.
نتبيَّن في تزايد العنف والتطرُّف والتعصُّب الطائفي الذي واكب ويواكب الأفعال وردود الأفعال المتواصلة في هذه البلدان، درجة من الغليان غير مسبوقة، فقد تحوَّلت الشام واليمن إلى فضاء لممارسة العنف اليومي، متعدد الصور والأشكال. وعندما نكون على بيِّنة من أشكال التَّكَالُب الإقليمي والدولي على المشرق العربي، ونُعاين، في الآن نفسه، تواصل الإرهاب الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية، نصبح أمام وضع قابل لممكناتٍ يصعب حصرها بدقة ووضوح.
شَكَّلت مواقف وصور تدخُّل كل من إيران وروسيا مداخل أساسية لفهم أوجُه كثيرة للممانعة السورية، خلال أربعة عقود، وعندما انتفض الشعب السوري، بحثاً عن خلاصه من نظام مستبدّ، قامت روسيا، بِحِسِّها الإمبراطوري القديم والجديد، لتعلن رغبتها في نيل مكانة مُستحقَّة في لعبة الصراع الدولي المتواصلة في العالم، كما أعلنت إيران لزوم أن يكون لها حضور، ليس في الشام الكبرى، بل في الخليج العربي أيضاً. وهكذا، وبمجرد توقيعها الاتفاق الذي أبرمته مع الولايات المتحدة الأميركية في موضوع برنامجها النَّوَوِي، بدأت تُشْعِر العالم أجمع من خلال تموقعها البارز في لبنان وسورية واليمن، بأنها الحليف المساند لنظام الأسد، بأدوارها المفترضة في تدبير مستقبل الشرق الأوسط والخليج العربيين.
وهكذا تتحول الشام إلى أرض مستباحة، ويستطيب النظام السائد مُتْعَة بيعه وطن البعث والوحدة
العربية، من دون حياء ولا خجل. ومن الواضح، اليوم، أن واقع المشرق العربي أصبحت تحكمه معطيات لا يمكن التفكير فيه بدونها، فالعراق تُعَدُّ اليوم دولة محتلَّة وخاضعة للهيمنة الإيرانية والغزو الأميركي ومخلفاته. وتجري فوق الأرض السورية معارك تقودها روسيا، بتواطؤ مع الحرس الثوري الإيراني، ما يجعلنا نُعَايِنُ مآلات تنذر بمزيد من الدمار، ومن دون إغفال متغيرات الوضع في اليمن.
ازدادت الصورة قتامة، حيث يتواصل خرابُ المدن، بعد عجز من ساهموا في صناعة داعش عن لَجْمِ مسارها والحدّ من سطوتها، وعجز المعارضة السورية عن مواجهة جدار الحماية الذي بنته روسيا وإيران في سياق صراع المصالح المتواصل في العلاقات الدولية، الأمر الذي ترتَّب عنه تَمَادِي دول عظمى وقوى إقليمية في ركوب مغامرة إسناد النظام القائم، على الرغم من انكشاف كل عوراته، وبلوغنا عتبة المتاهة المُعْتِمة، حيث ينقلب السحر على السَّحَرة، ويتحوَّل المشرق العربي في أعين القوى الخارجية إلى أرض خلاء، يسكنها بشر يحملون تسميات مذهبية وعقائدية، لا علاقة بينها وبين مكاسب التاريخ الحديث والمعاصر، مجتمع طوائف ومذاهب وعنف وتخريب وتهجير. نتبيَّن بعض ملامح ذلك في نتائج اجتماع ﭬﻴﻴﻨﺎ، أخيراً، الحاصل بدون ممثلي المعارضة السورية، ما يؤكد فعلاً أن المجتمعين فيه يعتبرون أن اجتماعهم يتعلق بالبت في مصير أرض خلاء.
يتضح من مجمل ما وقفت عنده الفقرات السابقة أن الصراع بين النظام السوري ومعارضيه تحول في مسلسل تطوره من صراع داخلي إلى صراع دولي، تقوم فيه روسيا بتجريب أحدث معداتها الحربية من صواريخ وقنابل عنقودية، بغرض مواصلة إسنادها النظام السوري، وهي بذلك تنظر إلى الجغرافية السورية فضاء لتجريب جَدِيد ترسانتها الحربية، وتحصين مواقعها في دوائر الصراع القائمة في العالم.
المُمَانَعَة السورية التي تتم اليوم باسم طائفة وحزب ومجموعات مسلحة، وإسناد دولة إقليمية وتواطؤ تزداد معالمه اتضاحاً بين روسيا وأميركا، تُبْرِز بوضوح أن النظام السوري حرص على تقويض القيم التي ترتبط بنشوء المجتمع والثقافة ومظاهر التمدُّن، ليترك المجال، اليوم، لكل ما يسمح بإنعاش العصبيات الدمويَّة والعقائدية، الأمر الذي يُسَهِّل مأمورية كل من روسيا وإيران في صناعة خرائط جديدة للشام.

C0DB4251-3777-48D1-B7F6-C33C00C7DAEB
كمال عبد اللطيف

محاضر في جامعات ومؤسسات بحث في المغرب وخارجه، عضو في لجان جوائز ثقافية في مراكز بحث وجامعات عربية. يساهم في الكتابة والتدريس الجامعي منذ السبعينيات، من مؤلفاته "درس العروي، في الدفاع عن الحداثة والتاريخ" و"الثورات العربية، تحديات جديدة ومعارك مرتقبة".