"ماما وين بابا؟" سؤال أصاب الأم بعجز كبير، وهي تبحث عن إجابات في صباحات محاطة بالحزن، حين استيقظ طفلها مهند الزبن للتوجه إلى المدرسة في أول يوم دراسي، إلى مدرسته بمدينة نابلس.
تختلط مشاعر الأم ما بين الفرح والحزن، "كبر وأصبح في الصف الأول الأساسي، يبدو فرحا وسعيدا، رغم كثرة السؤال عن والده الذي غيبته سجون الاحتلال الإسرائيلي طويلا"، تقول والدة مهند. وتضيف: "هذا الأمر صعب للغاية لكنني في نهاية المطاف أجد نفسي أقول لطفلي بأن والده سيعود قريبا من السجن".
مهند (ست سنوات) هو أول طفل فلسطيني يولد عن الطريق النطف المهربة من سجون الاحتلال الإسرائيلي، ووالده عمار الزبن (43 عاما) من مدينة نابلس شمالي الضفة الغربية المحتلة، المحكوم بالسجن المؤبد 27 مرة، ومتهم بالانتماء لكتائب الشهيد عز الدين القسام الذراع المسلح لحركة "حماس"، ومسؤول عن تنفيذ عدة عمليات فدائية وقتل عدد من الإسرائيليين.
استيقظ مهند صباح اليوم باكراً، تقول والدته لـ"العربي الجديد"، "كان سعيد جدا، خصوصا وأنا أساعده في ارتداء ملابسه، وتوضيب حقيبته المدرسية، لكنه سألني عن والده لماذا لم يأت كي يأخذه للمدرسة"، بدا الأمر محزناً ومؤلماً، لكن الأم سارعت في البحث عن إجابات ترضي طفلها الصغير وتبقيه سعيداً، فأخبرته أن والده سيعود من السجن قريبا، ربما بعد شهر أو شهرين.
رافقت أم مهند طفلها إلى مدرسته، حاولت قدر الإمكان أن تحافظ على أجواء الفرح، رغم أن صغيرها أبدى حاجته الماسة لوالده الذي لم يره في حياته قط. وكأي طفل في العالم يريد مهند أن يأخذ مصروفه من والده ويوصله إلى المدرسة أسوة ببقية رفاقه الطلبة. لكن في طريق عودتها قالت أم مهند لـ"العربي الجديد" أن البكاء كان رفيق دربها، لم تجد أي عبارات تصف شعورها وواقعها الصعب، رغم أنها اعتادت غياب زوجها منذ أكثر من 20 عاما، وربت طفلتيه آنذاك حتى كبرتا وعلمتهما في الجامعة، وزوجت إحداهما، لكنها لا تريد لطفليها مهند وأخيه الأصغر صلاح الدين (أربع سنوات) أن يتذوقا لوعة الفراق أسوة بشقيقتيهما.
مهمة الوالدة بمساعدة ابنتيها، هي البحث الدائم عن إجابات لأسئلة الصغيرين عن عدم وجود والدهما بينهم. متى سيأتي؟ هو السؤال الأكثر صعوبة عند الأم، إذ تحاول قدر الإمكان أن تقرب المسافات بين الطفلين ووالدهما. لكن سجون الاحتلال وحكمها الطويل على الوالد الذي يتجاوز "مدى الحياة"، لا يمنعها من إجابة مهند أنه سيعود في غضون شهرين أو ثلاثة. وتحضر الأم نفسها لتكرار السؤال مجدداً بعد مدة، لأنها ستجيب في حينه بأن الاحتلال كاذب لذلك قد تتأخر عودة والده إلى المنزل.
يبحث مهند عن وجه الشبه بينه وبين والده الأسير، ويخبر والده عن ذلك. وتقول الأم الحزينة أنها تعطيه صور والده ليبحث عن ملامح الشبه بينهما، فيحضنها حتى ينام. ثمة ألم في هذه الحكاية، لا يمكن لأي شيء في العالم أن يعوض هذا الطفل عن نقص حنان الأب، والحاجة الملحة له خصوصا أنه كبر وسيذهب كل صباح إلى مدرسته.
الشعور المؤلم ذاته بحسب الأم، سيكبر مع رؤية الصغير لآباء يحضرون أطفالهم إلى المدرسة كل صباح، سيلحظ مهند هذا الأمر، وسيشعر بالحزن الشديد كونها عايشت هذا الأمر مع ابنتيها، اللتين كبرتا ووالدهما بعيد عنهما.
في الصف، سيكون مهند قادرا على أن يصف ملامح والده العامة، يعرفها من خلال المعلومات التي يجمعها عنه عبر اسئلته الكثيرة لأفراد العائلة، لكنه لن يقدر على أن يخبر رفاقه عن ملامحه القريبة، إلا تلك التي يشاهدها في الصور كونه لم يشاهده في حياته أبدا.
يمنع الاحتلال الإسرائيلي عائلة الأسير عمار الزبن من الزيارة بذريعة المنع الأمني، رغم محاولات كثيرة من الصليب الأحمر الدولي للحصول على طلب زيارة. وقبل ست سنوات كانت الزيارة الأخيرة لزوجته وطفله مهند وكان عمره يومها ثلاثة أسابيع. استمر عناق الوالد لصغيره ساعتين، وكان لقاءً امتزجت فيه مشاعر الحزن والفرح التي يصعب وصفها.
منذ تلك اللحظة يعيش مهند على أمل لقاء والده، يسمع صوته لبضع دقائق عبر اتصال هاتفي يأتيه من السجن، وسرعان ما ينتهي بسؤال مهند: بابا وينك، ليش ما ترجع على البيت؟.
مهند الزبن، أول طفل فلسطيني يولد عبر النطف المهربة من سجن الاحتلال، وهو بداية لولادة 65 طفلاً فلسطينياً هربت نطفهم من آبائهم من مختلف سجون الاحتلال الإسرائيلي، من بينهم شقيقه صلاح الدين، في مهمة تمنح الأسرى لا سيما المحكومين بأحكام عالية أملا كبيرا بأن حياتهم مستمرة مع عائلاتهم رغم محاولات الاحتلال الإسرائيلي قتل أحلامهم وحياتهم خلف القضبان.