يعود الحديث في فرنسا هذه الأيام عن المفكر التوارتي بيني ليفي، مرة أخرى، بمناسبة صدور كتاب جديد بعنوان " مدى الحياة" في ذكرى رحيله العاشرة، ألفته أرملته ليو ليفي، وصدر عن " دار فيرديي Edition Vedier " في تشرين الأول/ اكتوبر 2013. والجديد أن الكاتبة تكشف تأثير زوجها الديني على فيلسوف الوجودية جان بول سارتر، الذي عرفه في مطلع السبعينات، ونشأت بينهما صداقة حميمة، وتتحدث عن استجابة سارتر للفكر التوراتي وتخليه عن الماوية.
بيني ليفي يهوديَ مصري "فرّ" من مصر في بداية الحقبة الناصرية والتجأ إلى فرنسا، تاركا أخاه يعلن إسلامه ويصبح فيما بعد من أبرز المفكرين الإسلاميين (عادل رفعت). وقد انتهى به المطافُ، بعد مرور قسري بفرنسا الأنوار والفلسفة والثورات المتعدّدة، إلى أن تستهويه التوراة وشروحاتها. وتكتب المؤلفة ليو ليفي، أرملة بيني ليفي، عن هذه الفترة التي دفعت الراحل إلى مغادرة مصر: " في تموز/يوليو 1956، ذكّرت رنة خطابات عبد الناصر على أمواج الإذاعة، وهو يدعو الجماهير للدفاع عن قناة السويس، بـ"صُراخَات هتلر سنة 1938"، وبعيدا عن أن يساهم العدوان الثلاثي على مصر (وهو انتصار عسكري للدول الثلاث المعتدية، ولكنه انقلب نصرا سياسيا كبيرا لعبد الناصر) وما جلبه من مضار على اليهود، في تعزيز أواصر العلاقة بين أفراد عائلة بيني ليفي، فقد "حدث الانفجار الكبير بين والد بيني ليفي وأخيه الأكبر" .
وتقول المؤلفة: " لم يُخْفِ الأب أبدا القليل من التعاطف مع الأفكار الشيوعية، ولا تعلقه بدولة إسرائيل، ولا غياب أي اعتبار لقضايا الأمة العربية. لكن الأمر يختلف، بالنسبة لابنه الأكبر "إيدّي ليفي" (الذي أصبح اسمه عادل رفعت، وتقاسَم مع زميل له، بهجت النادي، اسم عادل حسين، وشكَّلا ظاهرة فكرية حقيقية في العالم العربي!). فحُبّه وصداقاته ومشاريعه تربطه بالمصريين. لم يَصِلْ بعدُ سنّ العشرين، ولا يتخيل مستقبله إلا في مصر، وبجانب الشعب المصري. وليس من الوارد في نظره الهجرة. وقد اعتنق الاسلام كي يتزوج راقصة كباريه وكي يعانق قضية الشعب المصري."
هنا تبدأ مشاكل العائلة التي قررت الرحيل عن مصر. مرحلة الشتات ما بين فرنسا وبلجيكا ثم فلسطين المحتلة. حيث الدراسة والنضال في صفوف اليسار البروليتاري. ولكنه سيظل يعتبر نفسه، وهو البعيد عن القدس، " إنسانا لا وطَن له"، ورغم تدخل سارتر لدى الرئيس الفرنسي ومنحه الجنسية الفرنسية، فقد ظل حنينه إلى "أرض الميعاد" (كي يتصالح مع تاريخه!). لم يكن يخفي عشقه للغة الفرنسية، وهو ما ساهم في رفضه الاستقرار مع والده في بلجيكا، في منطقة تتحدث اللغة الفلامانية. كما أنه كان عاشقا للفلسفة.
وفي إحدى المكتبات الجامعية الفرنسية (السوربون) قُدِّر لبيني أن يتعرف على طالبة الآداب "ليو"، والهاربة من معسكرات الإبادة النازية في بولونيا، فكان اللقاء الذي لم يتوقف إلا مع رحيل الزوج.
كانت الحياة الفكرية والسياسية صاخبة في هذه الفترة، أي فترة نهاية الستينات وبداية السبعينات من القرن الماضي، مع كل ما عرفته فرنسا من ثورة أيار/ مايو 1968 الطلابية والعمالية ونشوء حركات احتجاجية اتخذت أحيانا منحى عنفيّا وإجراميا وأحيانا إرهابيا. وكان بيني ليفي، في لجّة هذا الخضم. حيث تتلمذ على يد المفكر الماركسي الفرنسي لويس ألتوسير (الذي ترك أثرا أيضا على كثير من الماركسيين العرب، لعل مهدي عامل من بينهم). وقد انضم بيني ليفي إلى حركة اليسار البروليتاري، واضطرّ إلى تغيير اسمه، وأصبح يحمل اسم بيير فكتور. وهو تغيير سيقول عنه، فيما بعد، بأنه كان "فظيعا". وقد عاد عن هذا التغيير خصوصا حين شجعه سارتر على أن يوقع مقالاته باسمه الأول، أي الحقيقي. كما أنه في هذه الفترة تعرف على أوليفيي رولين وسيرج جولي، وعارضهما، كما عارض الكثيرين، في مسألة إصدار صحيفة "ليبراسيون"، بدعوى: "الحفاظ على نقاء الثورة". والذين يقرأون هذه الصحيفة، اليوم، يلاحظون أنها لا تزال بعيدة عن فهم سليم وجريء للقضية الفلسطينية، وتظل بصمات مؤسّسيها المتصهينين ثابتة.
لعل القارئ يتساءل عن السبب من إصدار هذا الكتاب؟ صحيح أن ثمة علاقة حب ووفاء بين المؤلفة وزوجها الاشكالي، تبرر لها استعادة مسيرته في كتاب. ولكن موضوع انتقال الزوج الراحل من الفكر الماركسي واليساري إلى الانغماس في التوراة، ليست مسألة تفصيلية، بل تثير أكثر من سؤال، وضمن هذه الأسئلة يوجد سؤال العلاقات الملتبسة بين بيني ليفي والفيلسوف الوجودي الملحد جان بول سارتر. إضافة إلى أسئلة حول الصراع العربي الإسرائيلي، خصوصا وأن القدس، التي التجأ إليها بيني ليفي ليموت ويُدفَن فيها، على الرغم من أنه لم يحصل على الجنسية الإسرائيلية، مدينة دينية مقدسة لدى ثلاث ديانات توحيدية. ثم ان موقف الفيلسوف الفرنسي تجاه اسرائيل عرف تحولا جذريا، ترجمه قبوله في 1976 الجائزة الشرفية الوحيدة في حياته وهي جائزة الدكتور هونوريس كوزا honoris causa لجامعة إسرائيل، وقد تلقاها من سفارة إسرائيل بباريس بواسطة الفيلسوف اليهودي إيمانويل ليفيناس. وصّرح انه قبل هذه الجائزة فقط لأسباب سياسية :"لخلق رابط بين الشعب الفلسطينى الذي أتبناه وإسرائيل صديقتي".
التواطؤ
كان بيني ليفي بدون أوراق إقامة في فرنسا، فطرق، ذات يوم، باب الفيلسوف جان بول سارتر في "بولفار إدغار كيني" في باريس. فبدأت علاقة تواطؤ بينهما لم تنته بعدُ من إثارة الحيرة. فشارك ليفي مع الفيلسوف في إطلاق جريدة "ليبراسيون". وساعده سارتر في الحصول على الجنسية الفرنسية (متدخلا لدى الرئيس فاليري جيسكار ديستان)، وجعل منه سكرتيره الخاص (يقول بيني ليفي في رده على أسئلة الفيلسوف آلان فينكلكروت: " حينما أصبحتُ مواطنا فرنسيا بفضل سارتر، استطعت الانتقال إلى ما هو مهمّ. لم أعد أتضايق من هذا المشكل المتمثل في كوني فرنسيا أم غير فرنسي. انتقلت إلى ما هو أساسي، أي ما يعنيه أن تكون غريبا عن الأرض. إن سارتر هو الذي منحني من جديد تذوق اسمي الحقيقي، واعطاني، إذن، الانطلاقة الأولى للعودة إلى النصوص"، في حين أن سارتر وجد في بيني ليفي المُحاوَر القادر على إبقائه يَقِظاً لحظة شيخوخته وعماه اللذين حملاه بعيدا عن العالم، وأنجزا كتابا مشتركا (محاورات). ولكن محيط سارتر توجس من هذه العلاقة الغريبة بين الرجلين.
كانت رفيقة حياة سارتر الكاتبة سيمون دي بوفوار في غاية الغضب، فاتهمت بيني ليفي بأنه "انتزع بالقوة" من سارتر اعترافات... بينما رأى الكاتب والصحافي أوليفيي تود في الأمر " اختطافا لرجل عجوز"، اختطافا جبانا ومُرّا. ولا يزال، لحد اليوم، عدد كبيرٌ من الذين لا يفهمون نهاية الأحداث. ويقول جان- جاك بروشيي، مسؤول مجلة "ماغازين ليترير" وأحد أهم المختصين بأعماله، بهيجان: "كان سارتر، قبل أي شيء، أكبر مفكر للإلحاد". لم يكن سارتر حاضرا في هذه المحاورات! في تلك الحقبة، كان أعمى، فهل أعاد، حقيقةً، قراءة النصوص؟ إن الشيء المؤكد، هو أن بيني ليفي كان يقضي ساعات مع سارتر، مُقْصِيا، شيئا فشيئا، كل الآخرين، وأن سارتر كان مفتونا، دائما، بالثوريين المحترفين".
إذن فالكتاب محاولة من المؤلّفة، باعتبارها شاهدة، لتوضيح حقيقة علاقات بيني بالفيلسوف سارتر. صحيح أن الكثيرين كانوا يتعجبون من سر هذه الصداقة بين شخصين مختلفين، حتى في مسألة المرأة: فمثلا عن موقف بيني ليفي من مغامرات سارتر النسائية، تكتب ليو ليفي: " لم يكن بيني ليفي يفهم كثيرا تعامل سارتر مع النساء. علاقة رئيسية مع واحدة، كلُّ شيء مُتَقَاسَم معها، عدا الغرفة، وكوكبة من العلاقات الثانوية، تجهل كل واحدة الأخرى، السرّ والانفصال يتحكمان في هذه العلاقات. كان سارتر وديبوفوار يتقاسمان وضعية البروز المتعجرفة. وكان كل هذا يضع بيني ليفي في موقف الحيرة. ولكنه من جهة كان يحترم هاجس سارتر في عدم التخلي عن النساء اللواتي أحبَّهُنّ في لحظة وأخرى، على الرغم من أن الكَرَم يزيد، أحيانا، في تبعيتهن".
ما الذي يمكن أن يقدمه بيني ليفي حقيقة لسارتر؟
نقرأ: "بفضل ما قدَّمه له بيني من قراءاته والتأثير الذي تتسبب به على وُجودِهِ – لأول مرة منذ طفولته صام بيني ليفي الكيبور (يوم الغفران اليهودي)-، لمح سارتر إمكانية لتفكير جديد لنهاية التاريخ. بحث غير مُجْدٍ ومثير للدهشة، كان بيني ليفي سيقول عنه إنه جسيمٌ: الحكمة القديمة التي جسَّدها هذا الرجل الشاب، والتفكير الحديث ، في الرجل الممتلئ بالسنوات. وكان يجب أن تُصابَ سيمون ديبوفوار بِعَمى الغيرة حتى تتخيل سارتر وهو بصدد التحول إلى الديانة اليهودية، بينما كان يَستخْدِمُ التفكير الآخَر الذي كان يقدمه له بيني ليفي لأغراض خاصة به، ومن خلال هواجس خاصة به: كيف يمكن للرسولية اليهودية (الميسيانية) أن تمنح قوة واندفاعة للفكرة الثورية. وفي الحقيقة كان سارتر رجل إيمان." .
وتستشهد المؤلفة بما كتبه زوجها عن الموضوع في درس حمل عنوان "ثيولوجيا وسياسة": "قدم سارتر الأطروحة التالية: لا يمكن أن يخرج من مجموعة منصهرة سوى مجموعة مُحلَّفَة، ومن مجموعة مُحلَّفَة لا يمكن أن يخرج سوى الرعب، ومن الرعب لا يمكن أن تخرج سوى عبادة الشخصية، هذا هو امتداد العقل الديالكتيكي. إذن كيف يكون الإيمان؟ ولماذا الإيمان؟ لأنه يتوجب أن نؤمن، هذا هو جواب سارتر. صعبٌ على التصديق. وبعد هذا يأتي من يتهمني بالأصولية..." .
تعترف المؤلفة أن زوجها لم يكن يُكِنّ كثيرا من الود لمحيط جان بول سارتر: " يجب الاعتراف أن الود الذي كان يُكنّه بيني ليفي لسارتر لم يكن يسري بالضرورة على مُحيطه. كان بيني ليفي يرافق سارتر في اجتماعات لجنة الإدارة لمجلة "الأزمنة الحديثة"، التي كان يجدها، في غالب الأحيان، تقتل من الملل. وقد أحضر معه بيير غولدمان (مثقف ملتزم من اليسار المتطرف ولكنه انحرف إلى عمليات السرقة، وهو الأخ الأكبر للمغني والملحن الفرنسي الشهير جان جاك غولدمان. وقد قتل في باريس، ولم تعرف دوافع قتله ولا الجهة المنفذة لحد الآن)، الذي كان قد خرج للتو من السجن. وكانت وقاحته تُنعِشُهُ: " كان يصل لابسا سروالا أبيضا ونحو 15 صحيفة تحت ذراعه. (...) وأهم عمل أنجزه بيني ليفي، من أجل المجلة، هو تنظيم ندوة إسرائيلية- فلسطينية، بطلب من الفلسطينيين، الذين التقاهُم أثناء سفره إلى القدس: وهي ندوة تحمل اسم "السلام، الآن؟" والتي عقدت في شقة ميشيل فوكو." .
وتتحدث الكاتبة عن بعض كواليس هذا اللقاء، إذ كانت هي المترجمة بالنسبة لسارتر، الذي لم يكن يتحدث اللغة الإنجليزية. وانتاب سيمون دي بوفوار ، التي أحضرت سارتر (أصبح أعمى)، غضبا شديدا من غياب فوكو عن اللقاء، وكان سارتر يعاني من صعوبة السماع. وتعترف الكاتبة أنه "لم يَقْبَل أيُّ مثقف مصري حضور هذه الندوة، فيما كان المثقفون الفلسطينيون يتحدثون وكأنهم في طاولة مفاوضات." .
والجدير بالذكر أن سارتر لم يكن يعرف أحدا من الحضور عدا إيلي بن غال، وهو ما "جعل البعض يقول إن بيني ليفي كان بصدد التحايُل على الفيلسوف العجوز." .
ولقي الكتاب المشترك (الأمل الآن) الذي حرص بيني ليفي على إخراجه للوجود، اعتراضات وانتقادات. وتعترف الكاتبة أن بعضها صدرت حتى عن سارتر نفسه: " وتفاجَأ بيني ليفي من تصريحات سارتر المُشكِّكَة في بعض مقولاته: ويؤكد أنه، مثلا، لم يعرف القلق. وفيما يخص انبعاث الجسد وأيضا علاقات اليهود بربِّهِم، يَقْلِب سارتر ما كتبه، سابقا، وفي هذا يظل وفيّاً لنفسه، إذا ما صدقنا سيمون دي بوفوار في كتابها: "مذكرات فتاة مُطيعة": " لقد كان التفوق الحقيقي الذي يعرفه في نفسه يتجلى في الحب الهادئ والعنيف الذي يدفع به نحو كتبه القادمة. [...]لم يكن يتجذر في أي مكان آخر، ولا يخضع لأي تملُّك.".
أقسى رد على بيني ليفي جاء من عالم الاجتماع الفرنسي الشهير ألان باديو، الذي اتُّهِم بيني ليفي بأنه حاخام وبأنه أراد إدخال سارتر في اليهودية. بل وذهب إلى القول في صحيفة ليبراسيون، بأنه "حاخام طائفي".
الكاتبة :Leo Levy
عنوان الكتاب (مدى الحياة) :A la vie
الناشر: Edition Vedier
السنة :paris 2013
عدد الصفحات: 150 صفحة