ينفتح كتاب "الجمر والرماد" لهشام شرابي (1927 - 13 كانون الثاني/ يناير 2005) على حادثة يرويها المؤلف بكثير من المرارة، كان ذلك حين قرّر، في 1974، العودة بشكل نهائي إلى الوطن العربي، وقد اختار أن يقيم ببيروت فاشترى أرضاً لبناء مسكن، وبدأ يعدّ إجراءات استقالته من جامعة جورج تاون الأميركية حيث يدرّس منذ قرابة عشرين عاماً. غير أنه حين تقدّم بطلب إقامة لدى السلطات اللبنانية رُفض طلبه - بعد مماطلات - فحاول فهم الأمر دون أن يجد أجوبة على أسئلته، ما دعاه ليُعلم بعض معارفه بالأمر فتدخّل أحدهم لدى السلطات ليُمنح الإقامة بالفعل بعد حوالي سنة، أي في الوقت الذي كانت فيه طبول الحرب الأهلية في لبنان قد بدأت تدقّ. وعليه، كان على شرابي حزم أمتعته هو وأسرته الصغيرة، ولعلّ بعضها كان لا يزال في الحقائب التي أتت معه من أميركا، ليعود من حيث أتى كـ"الجندي المهزوم" بحسب تعبيره، مستشعراً بأن فرصة العودة إلى الوطن قد ضاعت إلى الأبد (عاد بعد تقاعده إلى لبنان حيث رحل).
كثيرون عرفوا مثله تلك الروتينيات والقرارات المتعسّفة الباردة، وكثيرون اضطرّوا مثله لمغادرة لبنان وقت الحرب، غير أن وعياً مأساوياً حاداً لازم هذه التجربة لدى صاحب "صور الماضي"، وهو ما نستشفّه من كلماته حيث يبدو "الوطن" من خلالها مثل بيئة عدوانية طاردة، وقد ساهمت تلك التجارب بلا شك في إنضاج وعيه بما تعيشه البلاد العربية، ولعلّ ما كان يعمّق مأساة شرابي هو اندفاعه الذي أتى به لإفادة وطنه، وضخامة مشروعه الذي يحمله على كتفيه.
لكن هذا الشعور المأساوي، لم يكن نتاج تلك اللحظة وحدها، فقد سبق لشرابي أن أوصدت في وجهه أبواب العودة إلى فلسطين سنة 1948، أي سنة بعد تخرّجه من "الجامعة الأميركية" في بيروت ضمن اختصاص الفلسفة، ولم يكن سفره إلى الولايات المتحدة لطلب العلم وحده بل كذلك احتماء من يد السياسة الطويلة وهو الذي خاض تجربة مفجعة ضمن "الحزب السوري القومي الاجتماعي" انتهت بإعدام أنطون سعادة في صيف 1949.
هكذا لم يكن انهيار حلم العودة في منتصف السبعينيات سوى قطرة في كأس ممتلئة، وإن حملت رمزيات جديدة كانت تضرب رأساً في البناء النفسي للمفكّر الفلسطيني، وفي قناعاته السياسية والفكرية والثقافية، ولا بدّ وأنه تساءل ضمن ذلك الشعور بالنبذ عن معنى ما كتبه وما سيكتبه؟ كانت مساراته تشبه هيكل تراجيديا إغريقية تجسّد حال المفكّر في الثقافة العربية ضمن منعطفات القرن الماضي، فوقائع الطرد تلك، بترتيبها العجيب، تشبه سيناريو مرسوماً كمؤامرة شاملة لطرد كل جهد توعوي أو أن تجعله غير قابل للنزول على الأرض.
وعلى الرغم من أنه لم يعُد كثيراً في مؤلفاته الأخرى إلى التشكّي من هذه المحطات، فإن نبرة أليمة يمكن تحسّسها في مجمل كتابات صاحب "مقدّمات لدراسة المجتمع العربي"، بل إن هذه النبرة كانت مثل هوية أسلوبية هو الذي حمل وعياً قاسياً تجاه اللغة، العربية تحديداً، فلا ننسى بأنه اتخذ الإنكليزية لغة بحث وتأليف في بداياته ثم قرّر أن يكتب بالعربية بعد 1967، وهي لحظة تلاقى فيها اكتماله المعرفي بهزيمة عربية شاملة.
لم تكن هذه العودة الرمزية مريحة بحال، فمن مخرجات بحثه في السنوات السابقة أن من أسباب إعاقة الحداثة في العالم العربي ما يتعلق باللغة، أو بعباراته: "هل يمكن الدخول في الحداثة بلغة غير حديثة؟"، أي أن شرابي كان كمن يمشي على حافة تفصل بين هوّتين، فمن جهة لا يمكن تأصيل الحداثة بلغة أجنبية ومن أخرى لا يمكن تفعيلها بالعربية كما جرى توارثها، وهو ما يقتضي سيراً متأنياً وخطيراً لبناء لغة جديدة قابلة أن تكون لغة بحث وتقصٍّ وقبل ذلك لغة المعاناة الحياتية والتجربة الفردية، وبذلك نفهم ميله للمراوحة بين الكتابة السردية والمؤلفات البحثية، وكأن الأمر تطبيق عملي لمقاربة نظرية.
في رحلته المتقلبة مع الحياة واللغة والأفكار، كان صاحب كتاب "المثقفون العرب والغرب" قد اشتغل على نقل النقد في الثقافة العربية من مستويات جزئية إلى مستوى حضاري شامل طارحاً أسئلة أساسية، من أبرزها دور المثقفين في الفضاء العربي وإعادة تفكيك تراث عصر النهضة العربية والعلاقة مع الغرب وبُنية العائلة.
بشكل عام، حمل شرابي قراءات راديكالية تجاه الواقع العربي كان من الطبيعي بالتالي أن تجد القوى المهيمنة، سياسياً واجتماعياً وثقافياً، مصلحة في بقائه مقصياً إلى منطقة خارج التأثير المباشر على شرائح موسّعة من المشهد الثقافي، وهو ما يستمرّ بشكل من الأشكال إلى يومنا هذا، فقليلة هي استعادات هشام شرابي (باستثناء عدد من التكريمات عرفها في العقد الأخير من حياته)، أو الإحالات إليه أو استثمار تركته المفاهيمية.
يلحّ المفكر الفسلطيني على أن "التاريخ يحقّق نفسه من خلال الشعوب والجماهير لا من خلال المفكرين والمثقفين والقادة" وهي مقولة لا تأتي على هوى الجماعة الثقافية - ناهيك عن رجال السلطة - ما يفسّر السكوت على مبحث دور المثقفين الذي انشغل به، ولكن شرابي كان يرى من زاوية أخرى أن "الحركات الاجتماعية لا تقوم خارج أو ضد الفكر أو النظرية بل من خلالها" (من كتاب "النقد الحضاري للمجتمع العربي في نهاية القرن العشرين")، وهنا تكمن أهمية المثقف، فـ"بدون نظرية شاملة نبقى في موقع سطحي ساذج، نرى الأحداث تراكماً فوضوياً في التاريخ" (من "مقدمات لدراسة المجتمع العربي")، ولعلنا إلى اليوم نعيش هذا الوضع.
بعد انفتاح على مغامرات بحثية عدة، حصر شرابي هدف النقد الحضاري في مواجهة النظام الأبوي وتعريته أيديولوجياً وتفتيته من الداخل، وقد أقام هنا عملاً نظرياً تأليفياً لافتاً حين لم يحصر مفهوم الأبوية في مضمون وحيد بل ضمن تجلّيات عدّة بداية من المعنى الأُسري الأول إلى ما يمارسه التراث من جهة، والضغط الغربي من جهة أخرى من تسلّط أبوي. وبالحفر في هذا الاتجاه اهتدى إلى أبرز إضافاته النظرية، وهو مفهوم البطريركية المستحدثة، بما هي تجديد للنظام الأبوي بحيث يبدو شكلاً عربياً من الحداثة في وقت يصبح فيه هذا الوجه المزيّف هو العائق الرئيسي في سبيل تحقيقها، وعلى مستوى آخر فإن البطريركية المستحدثة لا تصنع قطيعة مع التقليد وإنما تدمجه ضمن مظاهر الحداثة فتتلوّن بألوانها دون أن تكون من الحداثة في شيء.
يمكن أن نقرأ التاريح العربي المعاصر باعتباره مساراً داخل هذه الحداثة المغالِطة، فقد وجد هذا التزييف أسباب الحياة منذ أن التقت فيه مصالح السلطة في الداخل والغرب في الخارج تاركة المجتمعات العربية تراوح مكانها لعقود. حيال هذه الوضعية، لا يؤمن صاحب كتاب "النظام الأبوي وإشكالية تخلّف المجتمع العربي" بالثورات العنيفة إذ يرى أنه ليس في مستطاعها سوى خلخلة خفيفة للأبويات الراسخة، أما التغيير الحقيقي فيأتي عبر ثورة هادئة وعميقة أساسها ثقافيٌ قائم على التغلب - نفسياً قبل كل شيء - على التبعية والهزيمة والوعي المهزوم. طرحٌ لعلنا نستفيد منه اليوم لتفسير الكثير مما وقع في ثورات العقد الأخير في البلاد العربية.