هستيريا الإعلام المصري.. العداء ثقافةً

15 سبتمبر 2015
+ الخط -
هل خرج الإعلام المصري من عقاله، حتى ضج "ماسبيرو" بكل هذا الصراخ الذي ملأ المكان، وتجاوزه لينتشر خارج الحدود، ويصم آذان السامعين؟ وبسبب هذا الزعيق اليومي، بات المرء يظن أن شيئاً ما يلوث هواء استديوهات القنوات التلفزيونية المصرية، حتى لم يعد الضيوف ولا المذيعون ولا المقدمون ولا حتى المعدون، يستطيعون السيطرة على أعصابهم. فيصرخون وكأن الصراخ يكون أوقع وأفعل من الكلمة الهادئة، ويجد طريقه إلى أذهان المتلقين ووعيهم، ثم لا وعيهم، لتجري عليها عمليات مونتاج داخل رؤوسهم، فتخرج منها، وتفعل ما أراد الصارخ: كلمةً تحمل رسالته، أو فعلاً يتجلى فيه ما أراد. وإنْ لم يكن الصراخ مسموعاً، تجده مكتوباً على صفحات مجلات وجرائد مصرية كثيرة، متخمة بالتضليل وقلب الحقائق، علاوة على الاستهزاء بعقول المصريين. لنستنتج أن ثمة جوقة تدير هذا الهياج الذي يسود في الإعلام المصري، وينعكس في الشارع توتراً وعداءً، كأن يراد به هو خروج الناس من عقالها، لتجتاح البلاد موجة (تهييس) في الكلمة والفعل، لا يدري أحد أين ستنتهي بالجميع.
لن نضيف شيئاً، إن قلنا إن الصراخ دليلُ ضعفِ موقف الصارخ، وهو من أشكال الشتيمة التي توجه لخصمٍ تريد ضربه ولا تستطيع، أو تخشى ذلك. وهو هنا دليل ألم داخلي، سيطر على صاحبه، حتى أجبره على إخراج شحنة الألم صراخاً. وعوضاً عن استخدام العقل، والكلام بهدوء، يستخدم الصراخ، كأنه بذلك يستخدم عضلات يديه، لهزيمة خصم آلمه وجعله يصارع قلقاً من طغيانه عليه، ربما بموقفه، أو بقوته، وربما بأحقية مطالبه. وفي كل الحالات، يقع الصارخ أمام حقيقة أنه نافٍ للآخر وناكرٌ رأيه. وتبين أن ذلك كله ينطبق على معظم عاملي القنوات التلفزيونية المصرية، أو نجومها الإعلاميين، في تعاطيهم مع كل الشؤون التي شغلت البلاد منذ انطلاق ثورة 25 يناير 2011 وما تبعها، إلى الانقلاب العسكري، مروراً بالحرب الإسرائيلية على غزة، وصولاً إلى آخر مشهد صراخ، تكلل بطلَه مستشارٌ سابق ونجم إعلامي، منتصراً على الطالبة مريم ملاك التي أصبحت تعرف "طالبة الصفر"، بتحقيرها ومصادرته حقها في مجرد لقاء مع مسؤول حكومي.
يختصر موضوع مريم مدى وضاعة نظرة المسؤولين المصريين وبطانتهم إلى عامة الشعب،
وحقيقة موقفهم من هذا الشعب، وانفصالهم عن قضاياه. إذ إن تداول موضوع تلك الطالبة وإثارته ضجة إعلامية أدت إلى أن يستقبلها رئيس وزراء بلادها، ما استدعى مهاجمة ذلك المستشار لها ومهاجمة حقها في التظلم، مسبغاً صفة الضعف على البلد التي تنظر بتظلم مواطن، واصفاً موضوعها بـ "القرف". كما حذا حذوه آخرون بتناولهم الموضوع في الإعلام المصري، وبطريقة الاستهجان نفسها المحملة بالعداء لقضيتها التي تختصر قضايا كثيرين من أمثالها كل عام في مصر. وهم، في نظرتهم الدونية، لأبناء الشعب المصري، يستلهمون موقف وزير العدل السابق، محفوظ صابر، الذي صرح برفضه تعيين أبناء عمال النظافة في القضاء، وهو المناط به العدل، وعنده يجب أن تنتهي الفروق، وتعم المساواة بين الناس.
ولا تتفاوت طريقة تعاطي الإعلام المصري بين موضوع وآخر، فخطابه هو نفسه حيال مواضيع الحياة اليومية، وحيال تلك المصيرية التي تخص حياة شعب ما أو مستقبله. إذ كان لافتاً موقفه من الحرب الإسرائيلية، صيف العام الماضي، على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة. فكان تعاطي الإعلاميين مع الحدث بمثابة فضيحة، قوامها تحريضهم القوات الإسرائيلية على قتل أهل غزة. وهو ما يمكن أن يرقى إلى جريمة حرب، يقاضى عليها مطلقها بتهمة التحريض على قتل المدنيين خلال الحروب، تبعاً للقوانين والاتفاقيات والمعاهدات الدولية. فلا يمكن أن يغيب عن البال مشهد العداء الذي طفح من القنوات التلفزيونية المصرية تجاه الشعب الفلسطيني، في أثناء عدوان عملية الجرف الصامد التي شنها جيش الاحتلال الإسرائيلي على القطاع في يوليو/تموز من العام الماضي. مماشياً بذلك مساهمة حكومة عبد الفتاح السيسي بالحصار وخنق المواطنين الفلسطينيين، بإغلاقها معبر رفح، وتهديمها الأنفاق وإقامة المنطقة العازلة على الحدود مع غزة. وقد انقلبت صورة العدو، فصار الفلسطينيون أعداءً، وساد التشفي قنوات الإعلام المصري، وتجرد مذيعون وضيوف وفنانون من إنسانيتهم على شاشاته، فحرّضوا الجيش الإسرائيلي على ضرب غزة، بل وطالبوا الجيش المصري بمساعدة الإسرائيليين في ذلك. فوفقاً لهذا التحريض وتلك الدعوات، يمكن محاكمة المحرّضين أفراداً أمام المحكمة الجنائية الدولية، تبعاً لنظامها الأساسي، في حال وقع عليهم الاتهام، ورفضت الدولة التي يقيمون فيها ملاحقتهم، بموجب المسؤولية الجنائية الفردية. حيث إن للمحكمة اختصاصا على الأشخاص الطبيعيين، عملاً بنظامها الأساسي هذا وفق المادة (25/3) منه، وخصوصاً الفقرة (ج) والفقرة (هـ) اللتين تتناولان عقوبة التحريض على القتل الجماعي.
كما أن هذا الواقع يحمل خطورة غير مرئية، يعيش المواطنون المصريون ويمارسون تبعاتها،
من دون أن يدركوا ذلك. إنها ثقافة العداء، تُبَث على مدار الساعة في رسائل الإعلام، وتتكّرس وتنتشر على نطاق واسع بين الناس، يتبنونها في لاوعيهم، وتصبح ممارسة يومية. وتصير بعدها سلوكاً لدى عامة الشعب، ينجم عنها سهولة اتهام الآخر المختلف، من دون مبررات أو حجج لإلغاء رأيه، مقدمة لإلغائه، وبالتالي، الانقضاض عليه. وهو فعل تدميري، سيأخذ المجتمع المصري إلى اتجاهات ومصائر، يبدو أنها ليست في حسبان أحد.
ما يجري في هذه البلاد لا يمكن أن تحيط به توصيفات. وهو ينعكس في إعلامها مشاهد تدمي قلب السامع والمشاهد. وإنْ كان ليس مؤكداً أن الحالة الإعلامية السائدة في مصر سياسة رسمية، أو أنها تلقى احتضاناً من النظام المصري، إلا أن تغاضي العسكر الذين يعرفون حتى ما في دواخل الناس، إلى درجة أنهم يسجنون أشخاصاً بتهمة النية على التظاهر، لا يشير سوى إلى أن النظام يرعى هذه الحالة، إن لم يكن هو من خطط لها، وسهر على تنفيذها.

46A94F74-0E6B-4FEC-BFDA-803FB7C9ADA6
مالك ونوس

كاتب ومترجم سوري، نشر ترجمات ومقالات في صحف ودوريات سورية ولبنانية وخليجية، نقل إلى العربية كتاب "غزة حافظوا على إنسانيتكم" للمتضامن الدولي فيتوريو أريغوني، وصدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.