لم تسمح للمرض ولا للانتكاسات الثلاث التي تلته بأن تنهك تفاؤلها. تضحك كثيراً وهي تسرد السنوات الأربع عشرة الأخيرة. ريما يونس ابنة الخامسة والأربعين تستحقّ لقب "محاربة" بجدارة.
"تتغيّرين. تتفاجئين قليلاً في البداية". في عام 2002، بدأت القصّة. إنّها قصّة ريما. "عادي!" مفردة تتكرّر في سردها. "كانت حياتي مختلفة. كنت أعيشها مثل أيّ شابة وأيّ إنسان. كنت أحبّ الرياضة، وأمارسها. كنت أشارك كذلك في فرق رقص استعراضيّة". كانت مفعمة بالحياة، تماماً كما هي اليوم على الرغم من ذلك المرض الخبيث الذي يتنقّل في جسدها لينهكه مذ كانت في الثانية والثلاثين من عمرها.
"يقولون إنّ الواحدة منّا تصل إلى هنا، نتيجة قلّة الانتباه. لكنّ الأمر ليس كذلك". سرطان الثدي يستهدف المرأة من دون أن تدرك، خصوصاً عندما تكون شابة. "في يوم، شعرت بأمر غريب. قبل فترة من الزمن، كنت قد أحسست كذلك بشيء من الانزعاج. فأجريت الفحوصات اللازمة. وظهرت النتائج سليمة. هكذا قالوا لي. اطمأننت". لكنّها بعد فترة، عادت لتشعر بأنّ ثمّة ما هو مريب. فأعادت الفحوصات. وكانت النتيجة هذه المرّة: "آكلتيها". أوضح الأطباء لها أنّ مرضها في الطور صفر، لكنّه كان ممتداً، الأمر الذي استدعى عمليّة استئصال ثنائيّة سريعة.
في البداية، كانت محاولات لإخفاء الأمر عنها. "راحوا يستخدمون مصطلحات مموّهة، إلى حين سألتهم: هل هو سرطان؟ فأجابوا: نعم هو سرطان!". أمّا ردّ فعلها "فلتكتمل مشيئة ربّنا!". إيمانها الكبير ساعدها وما زال على محاربة المرض الذي راح يتمدّد في جسدها أكثر فأكثر. "لم أسأل في يوم: يا ربّ ماذا فعلت حتى أستحقّ هذا؟". تقبّلت الأمر. تقبّلت ألمها، "فهو لا شكّ أنّه لخلاص نفسي. وأصلّي دائماً".
ليس إيمانها فقط ما يقوّيها، "عائلتي كانت داعمِيَ الأكبر". هي صغيرة البيت، وإلياس -والدها- متأهّب دائماً من أجلها. لا يخفى على أحد انهماكه بها، وحرصه على راحتها. "أستشيره دائماً، فأطمئنّ". أمّا مرمورة، هكذا تدلّع والدتها، فهي "تقبرني.. رايحة جاية معي إلى المستشفى".
"ملفّي اليوم محترم". تضحك. كلّما عدت لأتفحّصه أتساءل: هل خضعت فعلاً لكلّ هذا؟". وكانت ريما بعد اكتشاف مرضها، قد خضعت لجراحات عديدة معقّدة وحرجة. "خلال أربعة أشهر تقريباً، بقيت عاجزة عن المشي باستقامة". بعد ذلك، راحت تتردّد كثيراً إلى المستشفى، من أجل جلسات العلاج الكيميائيّ. هناك، التقت بكثيرات. كنّ يخضعن لجلساتهنّ وهنّ حزينات ومتأففات وغاضبات. وكانت الواحدة منهنّ تسأل: ماذا فعلت لربّنا حتى أستحقّ هذا؟ "كنت أحزن عندما أشاهد حالهنّ. أنا، سلّمت أمري لله وتقبّلت وضعي".
لا تخفي ريما أنّها تضعف في أوقات كثيرة، ولا سيّما أنّها تُنهَك سريعاً. وتتساءل: "لماذا حياتي هكذا؟ هل عليّ أن أبقى مريضة دائماً؟". وتقرّ بأنّها بكت "مرّة واحدة. كان شعري قصيراً جداً ورحت أبحث عن عمل، بعدما استقرّت حالتي بعض الشيء، وبعدما قضيت سنة ونصف السنة في المنزل. سألوني: أين كنت؟ عندما عرفوا ما بي، كأنّهم قالوا: الله يوفقك. هل أصبحت منبوذة؟". وتشعر بحزن. "نعم أحزن. كنت مثل سواي، لديّ أحلامي ومستقبلي. كنت أحلم بأن أصبح صحافيّة (هي تحمل شهادة في الصحافة) وأعمل وأكفي نفسي، وأملك سيّارة. لكنّ شيئاً لم يبقَ من تلك الأحلام". تأقلمت. "حياتك تتغيّر. لا مفرّ من ذلك. كنت ريما. كنت مغرمة. صارت عندي حياة أخرى. لم يعد في إمكاني الاستمرار في تلك السابقة. كلّ ما تتعرّضين له ينهكك".
لم يُخيّل إليها في يوم أنّها قد تصاب بالسرطان، فكيف أن تنتكس بعد ذلك ثلاث مرّات؟ وخضعت ريما لأربع دورات من العلاج، تنوّعت ما بين كيميائيّ وإشعاعيّ. اليوم، تتناول علاجاً دوائياً، في انتظار التصوير المقطعيّ بالإصدار البوزيترونيّ (PET-CT) المقبل. هي اعتادت الخضوع له مرّة كلّ ستة أشهر، وقد اقترب الموعد.
تحبّ ريما أن تروي تجربتها. "في حال أصيب أحدهم، الله يخلّي الكلّ بصحته، فلا يشعر بأمر غريب، وبأنّه غير نافع". صحيح أنّها اليوم مستقرّة في منزل العائلة الجبليّ، إلا أنّها تحاول استثمار وقتها بقدر ما تسمح لها حالتها. "أقرأ وأستمع إلى الأخبار وأصلّي. من جهتهم، يملأ أولاد شقيقتي وشقيقي المكان. يمنحونني دفعاً.. للحياة".
تَصالح ريما مع نفسها وما أصابها، ساعدها كذلك في تقبّل خسارتها لشعرها. "في المرّة الأولى، كان طويلاً. قصصته وصنعت منه باروكة". أمّا المتبقّي منه، فقدّمته لمركز سانت جود لسرطان الأطفال في بيروت". لكنّ ذلك الشعر المستعار راح يزعجها. "كنت دائماً أشعر بالحرّ. ورحت أخلعه عن رأسي. أحياناً كثيرة، كنت أشعر بأنّني مهرّجة. ورحت أتحرّك من دونه، بينما راح الناس يتفاجؤون. الأمر عاديّ". الناس لم يتفاجؤوا بريما حليقة الرأس فحسب، بل راحوا يعبّرون كذلك عن تعاطفهم، وبخفر أحياناً كثيرة. "ريما مريضة؟ يا حرام يا ريما! شو شايفة ريما من هالدنيا؟ لا تستأهل!".
وتعود إلى عائلتها. "أهلي تضايقوا كثيراً. كانوا يراقبونني دائماً". وعندما انتكست بعد خمس سنوات، كان التعليق: شو ما شبعنا؟!. "هم دعموني كثيراً، ومن واجبي أيضاً دعمهم. فلا أرثي لحالي أمامهم، وأطمئنهم بأنّ صلواتهم لا تذهب سدى".
بالنسبة إلى ريما، "قد تكون هذه آخر مرحلة. قد أخبر انتكاسة جديدة". هذا لا يعني أنّها اليوم في أحسن أحوالها، فالشعور بالتعب يرافقها وكذلك الألم والانزعاج. "أحياناً رجلاي لا تحملانني. للأدوية آثار جانبيّة عدّة. وكلّ خطوة يُحسب حسابها. النزول إلى المدينة، لم يعد أمراً سهلاً، مع ضعف الجسد وضعف المناعة. لكن في عزّ الألم، ثمّة ضحك وفرح يأتيان على غفلة".