26 سبتمبر 2023
هذا هو الشعب الجزائري العظيم
مر زمن طويل جدا، لم يُظهر الشعب الجزائري عظمته للعالم، فقد ظن الجميع أنه انتهى إلى ما غير رجعة، وأن ما عايشه من قمع وترهيب وحصار عقوداً طويلة، حوّله إلى جثة، لا يختلف عن رئيسه المريض، حيث إنه ما عاد يثور أو ينتفض. كذبت كل تلك التهويمات، وأسقط الشعب العظيم الخرافات كلها، وكسر معها جدار الصمت الذي ضُرب حوله، وكسر جدار الخوف، وكشف عن معدنه الحقيقي، حين خرج يوم الجمعة الماضي (22/2/2019)، بالملايين، في جميع ولايات الجمهورية، لكي يقول لا للولاية الخامسة للرئيس عبدالعزيز بوتفليقة، ولكي يصرخ بصوت القهر "20 سنة بركات"، كفى احتقارا لهذا الشعب، ولتسقط كل رؤوس الفساد والاستبداد.
بعد ثلاثين سنة على مرور دستور 23 فبراير/ شباط 1989 التعدّدي، والذي أنجزه شهداء أكتوبر/ تشرين الأول 1988، ينتفض الجزائريون، في جمعة 22 فبراير/ شباط 2019، في مشاهد من التلاحم والوحدة، ومن التحضّر والوطنية، لم تعرفها البلاد منذ الاستقلال تقريبا، ولا تطاولها في القوة والتلاحم سوى انتفاضة 11 ديسمبر/ كانون الأول 1961 ضد الاستعمار الفرنسي، ليقرّروا استعادة مكتسباتهم التي انتهكها انقلاب يناير 1992 على إرادة الشعب، ويثبتوا أن هذا الشعب الذي اتُهم بالهمجية والتخلف هو أكثر تحضّرا من الفرنسيين والأوروبيين، حين يُسكت صوت الاستفزازات الأمنية، وتتوقف العصيّ عن انتهاك الكرامة الإنسانية لتلك الجماهير.
في هذه المرة، كانت المشاهد مختلفة تماما، كان الشعب، بكل أطيافه، حاضرا يغنّي معاً أغنية الحرية. كان الإسلامي إلى جانب العلماني، والعروبي إلى جانب الأمازيغي، والمثقف إلى جانب المواطن البسيط. أسقط الجميع شعاراتهم وخصوصياتهم جانبا، ورفعوا العلم الجزائري وحده، وقد جمعهم نشيد الشهداء "قسما" على الحرية، وعلى إخراج البلاد من ورطتها، ومن موتها الإكلينيكي، ومن الظلم الذي استشرى في ربوعها، وآن له أن ينجلي.
في هذه المرة، لم تكن الحشود بلحى طويلة وقمصانٍ بيضاء وحدها، تردّد، كما في بداية التسعينيات، شعارات الجبهة الإسلامية للإنقاذ "عليها نحيا وعليها نموت"، أو "لا ميثاق لا دستور، قال الله قال الرسول"، حتى سَهُل في ما بعد وصمها بالإرهاب. ولم تكن كما مسيرات
العروش البربرية التي اتّسمت عام 2001 بالعرقية والطائفية المقيتة، وبسببها تم منع التظاهرات نهائيا في العاصمة. ولم تكن كما أحداث الزيت والسكر عام 2011، عندما أخرجت المخافر أسوأ من في الشعب من مجرمين، ليعيثوا فسادا، حتى تراجع الشعب عن الالتحاق وقتها بموكب الربيع العربي. بل إنها لم تكن حتى كما مظاهرات 2014 ضد العهدة الرابعة التي دعت إليها حركة بركات، تقودها وجوهٌ نخبويةٌ منبوذة، تمكّنت قوات الأمن من سحلهم بسهولة.
في هذه المرة، لم يكتف الشارع بمطالبه الاجتماعية المعروفة، والتي ظلّ بسببها محتقنا سنواتٍ طويلة، وقد ظل ينظم في كل سنة آلاف التجمعات والوقفات المطلبية، من أجل لقمة عيشٍ كريمة. في هذه المرة، رفع الجزائريون جباههم عاليا، إلى رأس السلطة، وقرّروا أن يزيحوا عنهم العار الذي يلاحقهم في العالم، والذي مؤدّاه كيف لشعبٍ عظيم، كالشعب الجزائري، أن يحكمه رجلٌ مقعد؟ هل عقرت الجزائر أن تنجب غير بوتفليقة الذي أدّى ما عليه، وعليه أن يستريح؟
ردّ الجزائريون، هذه المرة، بصوتٍ مدوّ، على مدير حملة بوتفليقة الذي استفز الجزائريين بأن بوتفليقة هو الرجل الوحيد القادر على خدمة الجزائر، أن بينهم ملايين الرجال، وأن الجزائر العظيمة أكبر من بوتفليقة، ومن أحمد أويحيى، ومن عبدالملك سلال، لأنها كانت وما زالت، بعد الأمير عبدالقادر، وعبدالحميد بن باديس، والعربي بن مهيدي، وديدوش مراد، وهواري بومدين، وغيرهم من عظماء الجزائر، مع الفرق الشاسع في المقارنة، إذ لا وجه لتلك المقارنة.
لقد أسقط الشعب الجزائري، بوعيه وحبّه الكبير وطنه، كل الأباطيل التي رُفعت في وجهه قبل يوم الخروج الأكبر، فقد اشتغلت سيمفونية النظام طويلا على تخويف الجزائريين المسكونين برعب العشرية الحمراء التي خلّفت أكثر من 250 ألف قتيل، من مصيرٍ مشابهٍ لما تشهده اليوم سورية وليبيا ومصر وغيرها من البلدان العربية، وعلى اجترار فزّاعة المؤامرة التي يتعرّض لها الوطن من الصهاينة، وفزّاعة "الأيادي الخارجية" المتحالفة مع "أعداء الداخل".
الأخطر من ذلك كله أن الجزائريين الذين خانهم الإعلام الجزائري خيانة عظمى هذه المرّة، بتجاهله غير المهني وغير الأخلاقي، لما يجري حوله، ومعه جل الإعلام العربي والدولي، واجهوا حرب الذباب الإلكتروني، وانتصروا عليها بالضربة القاضية، على الرغم من قطع السلطات الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، وواجهوا المنتفعين من أحزاب السلطة والمال الفاسد، كما واجهوا أئمة المساجد المأجورين، وتيار المداخلة المتحالف مع الأجهزة، عبر الترويج الواسع لمقولات تحريم المظاهرات والخروج إلى الشارع.
كان الدرس قاسيا جدا، لكل الذين شككوا وخوّنوا وثبّطوا وحذّروا، بل كان أقسى لكل أحزاب المعارضة ذاتها التي أثبت الشارع اليوم أنها متخلفةٌ عنه بمراحل، وأنه على الرغم من محاولتها المتأخرة، ركوب موجة الشارع وتأييد حراكه السلمي، إلا أن الجزائريين الذين كفروا منذ مدة طويلة بالعمل السياسي، بسب السلطة المزوّرة والمعارضة المدجّنة، قد قرّروا تقرير مصيرهم بأيديهم، وبالتالي فإن جزائر ما قبل 22 فبراير لن تكون أبدا مثل جزائر ما بعد هذا التاريخ. ولكن الشعب الجزائري لم ينتصر بعد، فما حدث ليس أكثر من جولةٍ أعلن فيها الجزائريون عن أنفسهم من جديد، بعد أن عملت كل السياسات السابقة على تغييبهم عمدا عن المشهد، فليست الولاية الخامسة، في النهاية، سوى عرَض من مرضٍ مزمن، يصعب الشفاء منه، إنه مرض السلطة التي عليها أن تستوعب هذا الدرس جيدا، وأن لا تسخر منه كما
اعتادت أن تفعل، وأن لا تواصل الاستفزازات التي يبدو أن بعض رؤوس السلطة ما زالوا مصرّين عليها، وأن تحاول إيجاد حلولٍ أعمق من مجرد تسكين عوارض المرض الحقيقي، بإيجاد مناخ إيجابي وتدريجي نحو إحداث التغيير المنشود.
الانتصار على الدولة العميقة التي أثبتت وجودها في الجزائر سنوات التسعينيات، كما ظهرت برأسها في كل دول الربيع العربي، وأحدثت ثوراتها المضادة، يحتاج إلى مسار، لا إلى مسيرة أو مسيرتين. الطريق طويلة جدا، والحديث عن بداية تفكيك النظام القائم سابق لأوانه، فقد دفع الجزائريون مئات آلافٍ من القتلى في سبيل هذا الهدف الكبير، ولم يحدث شيء، بل ازداد الوضع سوءا، تماما كما في سورية ومصر وليبيا واليمن وغيرها، وهو المعطَى الذي يبدو أن الجزائريين قد استوعبوه جيدا، ويحاولون الآن أن يستخلصوا منه كامل الدروس.
كانت هذه هي خطوة الألف ميل، كما يقال، ذلك أن مسيرةً حافلة بالحب والأمل قد مضت، وينتظر هنالك مسار طويل وشاق، لا يعني أنه سيتشكل فقط عبر مواصلة التظاهرات وحدها، والتي ستكون، في الأيام المقبلة، أكثر اتساعا وقوة، داخل الجزائر، وحتى خارجها، حيث الجالية الجزائرية التي تعد بالملايين، كما لن يكتمل فقط عبر التلويح بالعصيان المدني، كما حذّر من ذلك الوزير الأسبق، عبد العزيز رحابي، وإنما يقتضي وجود عبقريةٍ شعبيةٍ فريدةٍ من نوعها، تأخذ في الاعتبار دروس الماضي، وتجارب دول الجوار العربية مع النظم المستبدّة، الضالعة في سرقة أحلام الجماهير، على أن يكون رافدها مشروعا سياسيا وحضاريا ضخما يُنهي زمن الوصاية والانتداب.
في انتظار ذلك، يحق لنا أن نتمتع بأصوات الحرية بين الحشود، وأصوات السلمية وصور باقات الورد التي يمنحها الشباب لأعوان الأمن وضباط الشرطة. نعم، ففي لحظاتٍ مسروقةٍ من زمن الذل، تجاوزت الحقيقة في الشارع كل أحلامنا الجميلة، تجاوز صوت الشعب الحر كل أصوات الفتنة والخضوع، إنه الشعب الجزائري العظيم، يعلن عن نفسه لمن لا يعرفه.
في هذه المرة، كانت المشاهد مختلفة تماما، كان الشعب، بكل أطيافه، حاضرا يغنّي معاً أغنية الحرية. كان الإسلامي إلى جانب العلماني، والعروبي إلى جانب الأمازيغي، والمثقف إلى جانب المواطن البسيط. أسقط الجميع شعاراتهم وخصوصياتهم جانبا، ورفعوا العلم الجزائري وحده، وقد جمعهم نشيد الشهداء "قسما" على الحرية، وعلى إخراج البلاد من ورطتها، ومن موتها الإكلينيكي، ومن الظلم الذي استشرى في ربوعها، وآن له أن ينجلي.
في هذه المرة، لم تكن الحشود بلحى طويلة وقمصانٍ بيضاء وحدها، تردّد، كما في بداية التسعينيات، شعارات الجبهة الإسلامية للإنقاذ "عليها نحيا وعليها نموت"، أو "لا ميثاق لا دستور، قال الله قال الرسول"، حتى سَهُل في ما بعد وصمها بالإرهاب. ولم تكن كما مسيرات
في هذه المرة، لم يكتف الشارع بمطالبه الاجتماعية المعروفة، والتي ظلّ بسببها محتقنا سنواتٍ طويلة، وقد ظل ينظم في كل سنة آلاف التجمعات والوقفات المطلبية، من أجل لقمة عيشٍ كريمة. في هذه المرة، رفع الجزائريون جباههم عاليا، إلى رأس السلطة، وقرّروا أن يزيحوا عنهم العار الذي يلاحقهم في العالم، والذي مؤدّاه كيف لشعبٍ عظيم، كالشعب الجزائري، أن يحكمه رجلٌ مقعد؟ هل عقرت الجزائر أن تنجب غير بوتفليقة الذي أدّى ما عليه، وعليه أن يستريح؟
ردّ الجزائريون، هذه المرة، بصوتٍ مدوّ، على مدير حملة بوتفليقة الذي استفز الجزائريين بأن بوتفليقة هو الرجل الوحيد القادر على خدمة الجزائر، أن بينهم ملايين الرجال، وأن الجزائر العظيمة أكبر من بوتفليقة، ومن أحمد أويحيى، ومن عبدالملك سلال، لأنها كانت وما زالت، بعد الأمير عبدالقادر، وعبدالحميد بن باديس، والعربي بن مهيدي، وديدوش مراد، وهواري بومدين، وغيرهم من عظماء الجزائر، مع الفرق الشاسع في المقارنة، إذ لا وجه لتلك المقارنة.
لقد أسقط الشعب الجزائري، بوعيه وحبّه الكبير وطنه، كل الأباطيل التي رُفعت في وجهه قبل يوم الخروج الأكبر، فقد اشتغلت سيمفونية النظام طويلا على تخويف الجزائريين المسكونين برعب العشرية الحمراء التي خلّفت أكثر من 250 ألف قتيل، من مصيرٍ مشابهٍ لما تشهده اليوم سورية وليبيا ومصر وغيرها من البلدان العربية، وعلى اجترار فزّاعة المؤامرة التي يتعرّض لها الوطن من الصهاينة، وفزّاعة "الأيادي الخارجية" المتحالفة مع "أعداء الداخل".
الأخطر من ذلك كله أن الجزائريين الذين خانهم الإعلام الجزائري خيانة عظمى هذه المرّة، بتجاهله غير المهني وغير الأخلاقي، لما يجري حوله، ومعه جل الإعلام العربي والدولي، واجهوا حرب الذباب الإلكتروني، وانتصروا عليها بالضربة القاضية، على الرغم من قطع السلطات الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، وواجهوا المنتفعين من أحزاب السلطة والمال الفاسد، كما واجهوا أئمة المساجد المأجورين، وتيار المداخلة المتحالف مع الأجهزة، عبر الترويج الواسع لمقولات تحريم المظاهرات والخروج إلى الشارع.
كان الدرس قاسيا جدا، لكل الذين شككوا وخوّنوا وثبّطوا وحذّروا، بل كان أقسى لكل أحزاب المعارضة ذاتها التي أثبت الشارع اليوم أنها متخلفةٌ عنه بمراحل، وأنه على الرغم من محاولتها المتأخرة، ركوب موجة الشارع وتأييد حراكه السلمي، إلا أن الجزائريين الذين كفروا منذ مدة طويلة بالعمل السياسي، بسب السلطة المزوّرة والمعارضة المدجّنة، قد قرّروا تقرير مصيرهم بأيديهم، وبالتالي فإن جزائر ما قبل 22 فبراير لن تكون أبدا مثل جزائر ما بعد هذا التاريخ. ولكن الشعب الجزائري لم ينتصر بعد، فما حدث ليس أكثر من جولةٍ أعلن فيها الجزائريون عن أنفسهم من جديد، بعد أن عملت كل السياسات السابقة على تغييبهم عمدا عن المشهد، فليست الولاية الخامسة، في النهاية، سوى عرَض من مرضٍ مزمن، يصعب الشفاء منه، إنه مرض السلطة التي عليها أن تستوعب هذا الدرس جيدا، وأن لا تسخر منه كما
الانتصار على الدولة العميقة التي أثبتت وجودها في الجزائر سنوات التسعينيات، كما ظهرت برأسها في كل دول الربيع العربي، وأحدثت ثوراتها المضادة، يحتاج إلى مسار، لا إلى مسيرة أو مسيرتين. الطريق طويلة جدا، والحديث عن بداية تفكيك النظام القائم سابق لأوانه، فقد دفع الجزائريون مئات آلافٍ من القتلى في سبيل هذا الهدف الكبير، ولم يحدث شيء، بل ازداد الوضع سوءا، تماما كما في سورية ومصر وليبيا واليمن وغيرها، وهو المعطَى الذي يبدو أن الجزائريين قد استوعبوه جيدا، ويحاولون الآن أن يستخلصوا منه كامل الدروس.
كانت هذه هي خطوة الألف ميل، كما يقال، ذلك أن مسيرةً حافلة بالحب والأمل قد مضت، وينتظر هنالك مسار طويل وشاق، لا يعني أنه سيتشكل فقط عبر مواصلة التظاهرات وحدها، والتي ستكون، في الأيام المقبلة، أكثر اتساعا وقوة، داخل الجزائر، وحتى خارجها، حيث الجالية الجزائرية التي تعد بالملايين، كما لن يكتمل فقط عبر التلويح بالعصيان المدني، كما حذّر من ذلك الوزير الأسبق، عبد العزيز رحابي، وإنما يقتضي وجود عبقريةٍ شعبيةٍ فريدةٍ من نوعها، تأخذ في الاعتبار دروس الماضي، وتجارب دول الجوار العربية مع النظم المستبدّة، الضالعة في سرقة أحلام الجماهير، على أن يكون رافدها مشروعا سياسيا وحضاريا ضخما يُنهي زمن الوصاية والانتداب.
في انتظار ذلك، يحق لنا أن نتمتع بأصوات الحرية بين الحشود، وأصوات السلمية وصور باقات الورد التي يمنحها الشباب لأعوان الأمن وضباط الشرطة. نعم، ففي لحظاتٍ مسروقةٍ من زمن الذل، تجاوزت الحقيقة في الشارع كل أحلامنا الجميلة، تجاوز صوت الشعب الحر كل أصوات الفتنة والخضوع، إنه الشعب الجزائري العظيم، يعلن عن نفسه لمن لا يعرفه.